حرفة توارثها المصريون من الفراعنة تفشل الصين في منافستها.. والسرُّ في هذه الحجارة

في نفس المكان الذي نحت فيه الفنانون الفراعنة تحفهم التي مازالت تذهل العالم، أسفل أشعة الشمس الحارقة، يجلس ممُسكاً بحجر يقوم بتشكيله. بحذر وبدقة يحاول بها مضاهاة دقة الفراعنة، ينحت محمد تحفته القادمة، مستخدماً في عملية الحفر آلة تسمى “الدبورة” (أداة بدائية صنعها أجداده عبارة عن قطعة حديدية حادة ولها يد خشبية) هذه المادة الشفافة الصافية ليست الصنعة فقط التي توارثها محمد عبد الرحمن وغيره من أهل مدينة القرنة بمحافظة الأقصر بجنوب مصر هي التي مكنتهم من صناعة تحف من قطعة من الحجر في دقائق معدودة فقط. ولكن أيضاً هناك المادة التي تصنع منها هذه التحف المسماة الألباستر. وهي تركيبة من الجبس الطبيعي دقيق الحبيبات ذو شفافية عالية، لونها أبيض صاف أو مختلط مع البني المحمر، كما أنها تتمتع بدرجة عالية من الليونة. مميزات هذه المادة جعلتها المفضلة في صناعة الأعمال الفنية والتحف والتماثيل، التي تشتهر بها مصر منذ عهودها القديمة التي خلدت أعمالها في المعابد والأهرامات الفرعونية.
سر الصنعة

بينما كان عبد الرحمن (وهو صاحب أحد مصانع الألباستر) يصنع إحدى تحفه، تحدث عن خطوات العمل ، قائلاً: بعد تشكيل قطعة الألباستر تتم إضافة البودرة والغراء (مادة لاصقة) لكي تكون مرنة ولا تنكسر أثناء العمل”. بعد ذلك، يتابع قوله، تُلف بقماش من القطن وبودرة من نفس الخامة، حتى لا تتفتت أسفل “المدجاب” (جهاز بدائي لتفريغ الألباستر)، وحتى تُصبح خفيفة الوزن. ثم تتم إزالة القماش، وتنعيمها عن طريق “الصنفرة” (تستخدم لإزالة الزوائد وجعلها ملساء) حتى يخرج شكلها النهائي. وقبل الوصول إلى النتيجة النهائية للعمل، يتم وضعها في الفرن لمدة ربع ساعة كي تأخذ طبقة شمعية ناعمة، وفقاً لـ”عبد الرحمن”.
من الأطباق إلى الأهرامات

بالبغال والحمير كان الأجداد ينقلون الألباستر من جبال نجع حمادي وأسيوط بصعيد مصر، ولذا كانت الكميات قليلة، حسب عبد الرحمن. أمّا الآن فالسيارة الواحدة تساعد في إحضار ما بين 10 و15 طناً من الحجر الخفيف، موضحاً أنّ وزن القطعة الواحدة يتراوح بين 150 إلى 200 كغ، ثم يتم تكسيرها إلى قطع صغيرة تمهيداً لتشكيلها. ويوضح أن العمل يتم بأدوات يدوية بدائية، لافتاً إلى المشكلة التي تسبب بها ارتفاع سعر البنزين ما أدى إلى ارتفاع تكلفة نقل الحجر الخام. وتتنوع مخرجات هذا العمل بين الأطباق، والمزهريات، والأكواب، ووحدات الإضاءة، إضافة إلى بيوت الشموع، والتماثيل مثل القطط، والأفيال، والأهرامات الصغيرة. ويتم عرضها، بحسب عبد الرحمن، في معارض بمدينة الأقصر، لبيعها للسياح كهدايا تذكارية بأسعار تترواح بين 20 جنيهاً (نحو 1.14 دولار) إلى 500 جنيه (نحو 28.5 دولار).
كل الفراعنة العظام

ويقول إنّ الفراعنة كانوا يستخدمون الألباستر في نحت تماثيل ملوكهم: مثل “رمسيس الثاني”، و”توت عنخ آمون”، و”نفرتيتي”، إضافة إلى “الجعران المقدس” (رمز الشمس المُشرقة). ويشير أنّ مدرسة “الرمسيوم” التي بناها رمسيس الثاني بمعبد سيتي الأول في القرنة، هي الأولى في تعليم نحت “الألباستر”. “عبد الرحمن ذكر أن “القرنة” تضم أكثر من 200 مصنع، تبدأ العمل عند السادسة صباحاً.
الصين تفشل في منافسة الفراعنة

أنواع الألباستر متعددة منها البازلت، والغرانيت، والحجر الجيري، الذي يُصنع منه اللوحات المرسومة، والديورايت وهو أشد أنواع الأحجار صلابة”، حسب عبد الرحمن. ” هذه الأنواع موجودة في مصر فقط، وهو برأيه ما جعل الصين تفشل في تقليدها ومنافستها رغم محاولاتهم المتكررة بتصميم أشكال متنوعة تشبه المنتج المصري بأسعار أقل.
رحلة إلى العصر الفرعوني

ارتبط رسم القرنة برائد هندسة الفقراء المهندس المعماري الشهير حسن فتحي الذي اعتمد على المواد المتوافرة في البيئة والحرف اليدوية لإنشاء مساكن مناسبة وصحية للفقراء. واليوم أصبحت السياحة من أهم الأنشطة التي تميز مركز ومدينة القرنة (إضافة إلى الزراعة والأنشطة الحرفية (25%).
والألباستر هو نقطة التقاء بين المجالين، حيث يقام معرض بالقرب من الصناع يضم كل فنون النحت، والسياح هم أبرز زبائنه. إذ تجذب هذه الفنون زوار الجنوب المصري، ويرون فيها تجسيداً حديثاً لأسرار الفراعنة، خاصة في ظل غلبة مظاهر الفن الفرعوني على المنتجات. فببشرتهم السمراء التي تجعلهم يشبهون صور الفراعنة المرسومة على جدران المعابد، ينادي البائعون الصعايدة بلغات عدة أجادوها بالممارسة جاذبين السياح بما في جعبتهم من تحف، وضعوا فيها ما توارثوه من أسرار فن النحت وجمالياته. ويقبل السياح عليهم بشغف وكأن هذه الأجواء تعيدهم في رحلة عبر الزمن إلى العصور الفرعونية القديمة، قبل أن يعودوا للواقع عندما يخرجون حافظات نقودهم ليسددوا الثمن بالعملة المصرية أو الدولار.

الأناضول

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..