هلاك بالضفة الشرقية

جمال الدين علي

بالأمس مات جارنا حسان والد صديقي بركات. قابلناه أنا وأبي قبل يومين عند المرسى القديم. سأله أبي عن سبب زياراته المتكررة للضفة الشرقية; أطلق ضحكة فتية مجلجلة لا تناسب ثوب الوقار الذي يلبسه في العادة وغمز بعينه وقال( فيها الهلاك). لا أدري لماذا شعرت أن اجابته كانت دعوة مبطنة قدمها لأبي. ( المسكين لم يكمل كوب الشاي بالحليب الذي وضعته أمامه زوجته). قالت أمي بعدما رجعت من بيت العزاء في آخر الليل.
كنت وصديقي بركات نتفقد الفخ الذي نصبناه للقماري عند طرف ( التقا). المكان الذي يجمع فيه المحصول قبل أن يجهز ويعبأ في جوالات الخيش ويذهب أما للسوق أو المخازن في البيوت. الفخ المصنوع من أسلاك الحديد ملك صديقي بركات; وأنا شاركته بالطعم. حبات الذرة الشامي التي انتزعتها بالقوة من فم شقيقتي الصغرى وتركتها تبكي.. على أن نتقاسم الصيد بيننا بالتساوي. دفنا الفخ حيث يجب وتركنا حبة الذرة تلمع كقطعة ذهب مع أشعة شمس العصر الهالك; ومن ثم هرولنا و إختبأنا في بطن الجدول الفارغ. برهة هبط سرب القماري; وراح الذكر يرقص و يغازل إحدى الإناث بهديله الحلو وهي تتمنع. ثم توقف فجأة رفع رأسه; ويبدو أنه لمح حبة الذرة و فكر في تقديم هدية; خطى بخطوات رشيقة نحو حتفه والتقط الطعم. إختلفنا حول نصيب كل منا. صديقي يقول أنه ساق الذكر بحدائه الحنين نحو الفخ; بينما رأيت أن قدره هو الذي رمى به تلك الرمية. تعاركنا وسقطنا على الأرض بجوار الصيد الذي كان يعافر فكي الفخ يحاول تخليص نفسه حتى نجح أخيرا وطار. تابعناه بأعين تفيض حسرة حتى غاب في الفضاء. وفجأة انطلق الصراخ والعويل من جهة الجسر الترابي الذي يرتفع كساعد يحمي القرية من ضربات الموج.
الأيام طوت بساط الأحزان وعلقته في ذاكرة القرية وهي كالجمل لا تنسى الحوادث التي فطرت قلبها. ذات يوم اجتمعت النسوة في بيتنا على قهوة الظهيرة; وكنت حينها ألهو (بأبي الزنان). تلك الحشرة الوادعة التي إلتقطها من فروع شجرة الحناء المتكئة على جدار البيت. حظه العاثر أوقعه بين يدي. ربطته من رجله بخيط رفيع ورحت أطلقه في الهواء كطائرة ورقية وأستمتع بأزيزه وهو محلق بالجو. لم أقصد التنصت; صرخت أمي (سجمي) وخلتها ضربت على صدرها كما تفعل دوما بعد هذه الكلمة التي تدل أن أمرا فاجعا قد وقع; تابعت أزيز الحشرة الطائرة حتى حطت بأحد فروع شجرة النيم حيث كن يجلسن تحت ظلها الوارف. قالت الداية بتول.
( علمت بالخبر بالصدفة ذهبت لتوليد أحدى الأمهات البكريات في القرية بالضفة الشرقية. وقع قلبي عندما عرفت أبو المولود).
هتفت إحدى النساء. ( أها).
تفلت الداية بتول مرارة القهوة ورطبت حلقها بجرعة ماء ; هيأت النسوة كل حواسهن لتذوق نكهة النميمة الحارة; لعقت شفتيها بطرف لسانها وقالت.
( ما كذّبت خبر من مكاني ودربي عديل على نفيسة). وكأنها تعفي نفسها من تحمل المسئولية; مسحت فمها و نفضت طرف ثوبها ( وبعدها حصل الحصل).
هتفت النسوة بصوت واحد ( يستأهل).
ذات مساء حضر أبي في ساعة متأخرة على غير العادة; سألته أمي وهي تضع براد الشاي بالحليب أمامه وعيناها تقدحان ( لماذا ذهبت إلى القرية بالضفة الشرقية؟). وكان قد صب لنفسه كوب من البراد ورفعه لفمه. لم ينظر أبي في عينيها المتقدتين; كح و تنحنح ثم قال ( ذهبت لزيارة صديق عزيز).
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..