عن أعمال التشكيلي السوداني الراحل أحمد عبد العال

أعمال التشكيلي السوداني الراحل أحمد عبد العال:
تعبيرية اللوحة هي العين التي تسمع والأذن حينما ترى واليد التي تقوم بالتعبير ..
بقلم: عيسى الحلو
مجلة فنون شرقية المتخصصة في الفن التشكيلي، التي تصدر في بيروت، أعادت نشر بعض الرسوم من أعمال الفنان الراحل أحمد عبد العال. وكان تعليقها كالآتي: في الأسود على الأبيض، يتمادى الفنان السوداني الكبير الدكتور أحمد عبد العال، فيذهب إلى حقول لم تتخضب فيها ريشة فنان حتى الآن.
أنه يمزج ما بين روحانية الحرف بوصفه إشارة، أو الصوت أو الريح بوصفهما قوة تؤلف شكلاً، والكتلة السوداء، بوصفها قيمة للبياض المضاد. كل هذه العناصر تجعل من لوحته الزيجية الحروفية كائناً متحركاً، يقوم علي لغة تعبيرية تلهب مشاعر المتلقي، وتفصح عن عوالم السودان المليئة بالحدث والمفاجأة .
هكذا كتب الناقد العربي عمران القيسي. اذاً.. لنلقي قراءة نقدية تضيء فن هذا الفنان السوداني الكبير.
اعتدنا في كتاباتنا النقدية أن نخلط بين المصطلحين تشكيل/ رسم وذلك بسبب أنهما مرحلتان تنفيذيتان يصعب الفصل بينهما أثناء الأداء الإبداعي العملي حينما تجوب الريشة صحراء و بياض اللوحة .
فالرسم هو عصب وشرايين الصورة المرئية، وبذا يمثل الهيكل الأساسي الذي ربما يتحول إلى صورة، مادتها ووسائطها الألوان. أما التشكيل.. وقد يظل رسماً.. كما هو، حيث نرى فيه مجمل العلاقات المفكر فيها والمفكر بها، من بحث عن الملامس والأحجام، والشوارد الخطوطية التي لا تنفك عن تقاطع وانسياب، أو تماه مع الأشكال المستقرة وغير المستقرة. هنا نتأكد مرة أخرى أن كل هذه المباحث في الخط والمساحة والملمس قد تدخل تحت عباءة اللون، فتعطيه هذه الحياة الأخاذة الآسرة، بكل المضامين، التي تتجلى في الشكل، لكنها تنادي العين لما وراء الشكل، حيث الخبرة البصرية تجد قاموسها في الخبرة المعنوية.
إن العالم لا ينقطع فقط لحياة الأشكال، وإنما يتم استدراجه لحياة المعنى، وهنا تقع الفروق الفردية بين متلق وآخر. فالفن أولا وأخيراً هو خبرة !
عالم عبد العال الفني يزدحم بالشيء.. وجهه وكتلته.. شكله ومضمونه. وهما الشكل والمضمون.. الرسم والتشكيل يمتزجان في حركة درامية واحدة متوحدة لا تنفصل. فالوجوه هنا.. هي ليست أقنعة كما هي عند بيكاسو. بل هي ملامح وسمات.. جمعت بكل قواها تعابيرها الداخلية لتحكي عن بناء خارجها وداخلها في وقت واحد.. وجوه قلقة.. غضوب.. حانية.. صامتة.. هامسة.. مترقبة ومنتظرة.. كل هذه الوجدانيات الكلية تجلت عبر ارتعاشاتها وارتجافاتها في فوضاها وفي تماسكها من خلال الوجه الذي هو الفضاء الذي يمثل نافذة تطل منها عين المتأمل المتلقي للوحة. حيث ينفذ الرائي العين إلى أزمنة أبعد من الزمن الراهن للوحة. فيرى وجه نوبي من الأزمنة القديمة.. زمن ترهاقا وبعانخي. ومن ثم يستدعي المتلقي ذاك الزمان البعيد ويدخله في نبض الزمن الراهن. وهكذا تتشابك الأزمنة، وتتداخل في حوار طويل ما بين الماضي والحاضر. وهنا تكمن درامية اللوحة.
اللوحة هنا.. تمر بمرحلتين إبداعيتين. مرحلة ما قبل العمل، ومرحلة ما بعد العمل. فالمرحلة الأولى عند عبد العال، هي تلك الرؤيا المسنودة بثقافة جمالية ومعرفية مستقاة من الإرث الثقافي السوداني بخاصة والمفتوحة في ذات الوقت علي العصر، حينما تستلهم اللوحة التقنيات الجمالية التي يطرحها عصرنا الراهن. وكل هذا يتمثله عبد العال ويجري مع دورة انفعاله الوجودي اليومي ويصبح هماً إبداعيا يتنزل عند رسغ اليد التي تقوم بتنفيذ كل تلك الرؤى وتجسدها صوراً علي سطح اللوحة. وكأني به يقول ما قاله مايكل أنجلو ذات يوم أنني أرى الصور النائمة في لحم الحجر . والذي يقرأ أعمال عبد العال يجد نفسه حين الدرس النقدي محاطاً بصعوبات كثيرة. وذلك لأن هذا العالم يتجلى في تجلياته النهائية علي فضاء اللوحة اللانهائي.. وهو مكون من طبقات من المعاني والأفكار بينها ما هو ظاهر وما هو خفي.. ما هو مرئي وما هو غير مرئي.. وهو عالم غير مبذول للعيون الطرشاء ولا للآذان العمياء. فاللوحة هنا هي صورة متحركة رغم ثباتها الظاهري.. وعلي العين الرائية أن تتابع حركة وحيوية الخطوط الحادة.. الغليظة.. المستديرة.. والمنقلبة علي عقبيها ..كما لو كانت لا تريد أن تنتهي بحدود مكانية فتستبصر لنفسها حركة الزمان السرمدي الدائري.. فينتهي الخط عندما يبتدئ أو يبتدئ حينما ينتهي. وتلك هي روح الحكايات التي تشرب أحبار الصور وألوانها وأضوائها وعتمتها العميقة. وهنا بالضبط يمتزج التشكيل والرسم.. الصورة ومعنى الصورة. ويتحول الرسم عند عبد العال إلى حرفية تقنية أصلها الخبرة التي سيطرت علي رسغ اليد.. تماماً كما يقول الأمريكي الناقد كولنوود .. من أن الفن خبرة.
للدكتور الناقد محمد إبراهيم الشوش رأي لا يرحب بما يكتبه الفنانون التشكيليون من آراء تنظر للعمل التشكيلي.. فهو يرى أن مهمة هؤلاء الفنانين تنتهي بتنفيذ اللوحة فقط.
وربما كان ما يقوله الدكتور الشوش صحيحاً بالنسبة لغيرنا. أما نحن في السودان فإننا نشكو من قلة الكتابات النقدية وانعدامها في مجال الفنون التشكيلية علي الخصوص وبما أن الفن التشكيلي كفن مرئي لا يعتمد على مرجعية المعنى لأنه لا يحاكي الواقع بشكل مباشر فمن الصعب أن يلاقي الاتصال المرجو بين الفنان والمتلقي ولكي يصبح عمل الفنان التشكيلي مرئياً بما يكفي يضطر هؤلاء الفنانون لجعل صورهم التي يبدعونها مرئية بما يكفي وذلك عبر الكتابة حول الفن التشكيلي لنشر الوعي الجمالي اللازم الذي يمثل الإضاءة الضرورية لقراءة هذه الصور.