الشفيع خضر: لهذا السبب (…) شتمنا نميري ووصفنا بـ”الأطباء الصغار الثعالب” الخرطوم : عمار حسن

قطع القيادي السابق بالحزب الشيوعي الدكتور الشفيع خضر، الذي فُصل قُبيل المؤتمر العام الأخير للحزب بأيامٍ، بعدم عودته للشيوعي في ظل وجود القيادة الحالية وعدم تغيير الطريقة تُدير بها الحزب، وَقَلّلَ من قرار فصله قائلاً: “فصلي يأتي في إطار الخلافات التي تحدث في أيِّ حزب”، وكشف الشفيع بمُنتدى (كباية شاي) الذي تنظِّمه “التيار” مساء كل “خميس”، عن تبليغ الشيوعيين لحكومة الصادق المهدي بانقلاب الجبهة الإسلامية بزعامة الدكتور حسن الترابي، في يونيو 1989 قبل أربعة أشهر، من تنفيذه، ورَفض أن يذكر الشيوعي بسُوءٍ وقال إنّه يَكن له كُلّ الاحترام والتّقدير، وشَهدت الليلة حُضُوراً كَثيفاً لدرجة أنّ حديقة صحيفة “التيار” امتلأت تماماً واضطر البعض للوقوف ومُتابعة حديث الشفيع الذي تنوَّع بين السياسة والفكر والشأن العام والخاص وامتد لأربع ساعات، تقريباً .. وإلى التفاصيل…
استقالتي وتفرغي للحزب
عاملان أديا إلى استقالتي، أولاً: فكرة تفرغي للحزب كانت موجودة منذ أن كنت طالباً حتى أنني ناقشت الراحل التجاني الطيب، في فكرة ترك دراسة الطب والالتحاق بكلية الاقتصاد وهذا الكلام فيه شوية رومانسية، قال لي: لا أنت خلص الطب أولاً وقدمت الطلب من بدري وكان قرار الحزب أن لا أتفرَّغ إلا بعد التخرج وإكمال الامتياز، العامل الثاني نحن عندما أشتغلنا في ذلك الزمن كان سوء الخدمات الطبية لا يوجد أسوأ منه إلا الموجود حالياً، وكنا بنشتغل ببناطلين وقمصان ولا نكتب الدواء في روشتة ولا يوجد دواء أصلاً، وإذا في شخص يريد أن يعمل عملية نقول له جيب معاك الشاش والدربات وغيرها من أدوات العملية، وفي تلك الفترة كنا نحن ثلاثة أطباء فقط، عمر الفاروق، جراح بالعاصمة السعودية الرياض والتجاني فيصل، جراح في إنجلترا وقمنا بإضراب لوحدنا بدون الرجوع لنقابة الأطباء سنة 1978 لأننا زهجنا من الأوضاع داخل حوادث مستشفى الخرطوم قفلناها ومشينا وعملت ضجة في ذلك الوقت، وأتذكر أن المرحوم حسن ساتي، الذي كان رئيس تحرير جريدة (الأيام) جاء إلى المستشفى، وبعدها عملو لينا لجنة تحقيق وطلعنا براءة.
الأطباء الصغار الثعالب
بعد ذلك جاء نميري وشتمنا وكان عنده لقاء شهري، وقال: صغار الأطباء كالثعالب، صغار الأطباء ممكن، لكن الثعالب دي شنو أنا ما عارفها، وقال إننا نريد أن نخرِّب، وذهب، وقلت لجماعتي في الحزب: هذه القضية لابد من حسمها وتفرَّغت للعمل السياسي.
الاختفاء ليلة الانقلاب
في ليلة انقلاب 30 يونيو، أنا كنت خارج السودان في ألمانيا الشرقية، وكانت هناك مشكلة وكان الألمان يتحدثون عن احتمال وقوع انقلاب، وقالوا لي: من الأفضل ألا تذهب إلى السودان، وجاء حديثهم في إطار خلاف معهم، وذهابي لألمانيا خاص بعمل حزبي، وقلت: لابد أن أذهب إلى السودان، وجئت بالفعل يوم 29 يونيو، قبل الانقلاب بيوم واحد، وكنت في ذلك الوقت سكرتير الحزب في الجزيرة والمناقل والفاو، وقابلت والدتي وقلت لها: لازم أمشي الجزيرة، سألتني عن السبب، فقلت لها: في حاجة أنا ما عارفها شنو، لكن الألمان قالوا هذا الكلام ما ساكت، وبالفعل ذهبت إلى الجزيرة ويوم 30 يونيو، حصل الانقلاب، وأنا طلعت طوالي من البيت وذهبت إلى بيت معيَّن لاختفي لوقت مؤقت، وكان بيتاً عادياً لأشخاص بسيطين وعندي معهم قصة لذيذة، سأرويها لاحقاً.
صاحب البيت صديقي ليست له علاقة بالسياسة أو بالحزب الشيوعي وفي الجرائد يطالع صفحة الرياضة فقط، وهو من بدري قبل ذهابي لألمانيا عارف إذا حدث شيء فأنا سألجأ إليه، وكان متوقع حدوث شيء ولابد أن ندبِّر أين نذهب وكان هذا البيت أحد خياراتي وفعلاً ذهبت إليه ومكثت معه أسبوعين، وقال لي: احتمال ناسكم هم من نفذوا الانقلاب، فقلت له: إذا فعلاً ناسنا سأكون معهم ولن ألجأ إليك، لكنني لم أكن متأكداً من هوية الانقلاب بنسبة 100%.
إبلاغ الحكومة بهوية الانقلاب
وقبل أن أذهب لألمانيا، الحزب الشيوعي السوداني قال لنا : هناك معلومات عن حدوث انقلاب، وهذا الحديث قبل أربعة أشهر، وأن الجبهة الإسلامية هي من ستقوم بهذا الانقلاب، والحزب كلف أشخاصاً يعلموا الحكومة ومن ضمن الذين كلفوهم المرحوم خالد الكد، وهو أخبر السيد الصادق المهدي، وأنا بدوري أخبرت الأستاذ إدريس البنا، بهوية الانقلاب، وقال لي بأنه سيخبر الإمام الصادق، هذا الحديث دار قبل أربعة أشهر، من الانقلاب، نحن نعمل شنو عاد؟
كسر الانقلاب والألغاز السبعة
لا أفتكر أن الخاتم عدلان، كان قد طلب من نقد 300 شخص، لصد الانقلاب وأفتكر أن الألغاز السبعة غير صحيحة، ولِمَ بهذا الكلام؟ وأفتكر أنه لم يحصل ونحن كحزب شيوعي نكسر الانقلاب بماذا؟ إلا بموية أو ثلج، خلونا نتكلم بوضوح وبواقعية لم يكن عندنا جيش ولم يكن عندنا عساكر أو لجنة عسكرية تقوم بهذه المهمة، ولم نكتف بالنزول تحت الأرض وإنما بلغنا الحكومة التي تمتلك الجيش، وبصراحة لا علم لي بالخطوات التي اتخذتها حكومة الصادق المهدي، عندما أبلغناهم بالانقلاب.
مغادرة السودان سراً
كنت مختفياً منذ 30 يونيو 1989م، وحتى 31 ديسمبر 1992م، وتنقلت في بيوت كثيرة وبعد ذلك أصبحت هناك حياة عادية، وبعد ذلك خرجت من السودان لأنني أصبت بوعكة صحية صعبة، وكان لابد أن أطلع لأن الدكاترة قالوا هناك خطورة على حياتي وغادرت يوم 31 ديسمبر، سراً إلى ألمانيا لتلقي العلاج واكتشفوا أنها ملاريا في الرأس لكنها خبيثة ثم رجعت إلى القاهرة ووجدت الأستاذ الراحل التيجاني الطيب، وكانوا بدأوا في تنسيق التجمع، والأطباء طلبوا مني البقاء ستة أشهر، لمتابعة العلاج والتجاني طلب من الحزب أن أبقى معه وأساعده في عمل التجمع وهذا ما حدث.
رجل بـ(لحية بيضاء)
أنا خرجت من السودان عبر الموانئ السودانية العادية وبجواز لا يحمل اسمي وشكل مختلف عن شكلي الطبيعي وكنت أرتدي جلابية وعمة كبيرة جداً وذقن بيضاء خالص ربيتها، لكن اللون الأبيض عملت له شغل ونظارة وعصاي أتوكأ عليها وغيَّرت مشيتي، وعن إحساسي وأنا خارج بهذه الطريقة دي فيها قصة طريفة ونحن داخلين على الجوازات بالمطار كان هناك شخص ماشي معاي، فقال لي: الشخص الماسك الوردية اسمه فلان، قلت له: إذا كان صحيحاً هذا الشخص حقق معي عندما أعتقلوني في أيام نميري، وبينما نحن ذاهبون نحوه نظرت إليه فقلت له: نعم هو نفس الشخص سلمته الجواز ومررت ولم يتعرَّف عليَّ وانتابني نوع من القلق، وطبعا أنا كنت وقتها هزيل وشاحب وهذا ساعدني كثيراَ.
أرفعوا أيديكم عن محمود
طلبت أن أزور الشهيد محمود محمد طه، في القسم الذي كان يوجد فيه، لأننا كنا محبوسين في سجن كوبر معاَ وجلست معه وكان يوم الخميس، وتكلمنا في كل حاجة، كان يكلمني عن أشياء كثيرة وعن الفكر الجمهوري وكان مقتنع تماماً بفكرته وكان مؤمناً تماماً أن نهاية النظام قريبة وبلغته كان يقول لي: لديَّ رؤية، وشفت الخضرة مالية الشوارع، وكنا نتكلم عن هذا الموضوع وكنا جالسين على الأرض في برش وقدَّم لي بلح وطلَّع لي بيان من جيبه وقال لي: هؤلاء جماعتكم، وفعلاً وجدته بيان من الحزب الشيوعي أول مرة أراه مكتوب فيه أرفعوا أيديكم عن محمود محمد طه.
شيء غير عادي
وبينما نحن جالسين جاء أحد العساكر وقال لي: أحسن ترجع القسم الخاص بك، لأنني أرى شيئاً غير عادي في السجن، وذهبت إلى القسم على أساس أرجع في اليوم التالي ونجلس ونتونس بارتياح لأن عدد الضباط يوم الجمعة قليل وعند مغادرتي لاحظت أن العسكري طويل و”صاري وشو” على غير العادة وكنت أشاغله وأتكلم معه، لكنه لا يرد قلت له: “ياخي في شنو”؟ قال لي: السجن مليان جيش، وبعد قليل سيأخذون الأستاذ، طبعاً في الإعدام يقومون بوزن الشخص وهذه من أبيخ التفاصيل التي يمكن أن يتحدث عنها الواحد، وقال لي إنه سينقلوه إلى قسم الإعدام ويبدو أن التنفيذ سيتم، قلت له: لا أظن.
وأذكر في الكتاب أبوبكر الأمين
ولكن عندما وصلت إلى القسم الخاص بي وجدت زملائي متحلقين حول التلفزيون وكان نميري يتكلم ويشتم ويزبد ويرغي ويقول: بهذا نؤيد حكم وتنفيذ الإعدام على محمود محمد طه، وأتذكر أن الراحل الأستاذ أبو بكر الأمين، الصحفي المعروف وهو من أعظم الأشخاص الذين قابلتهم في حياتي اتجه مباشرة نحو الحائط الذي نجلس بينه وبين مكان تنفيذ الإعدام وهو حائط ضخم جداً وابتدأ يحفر نحو الحجر ولم نسأله وذهبنا نحوه وبدأنا نحفر معه وظللنا نحفر إلى صباح اليوم الثاني إلى أن حرَّكنا الصخرة وأصبحنا ننظر في الاتجاه الآخر ثم نرجعها في مكانها.
قوة وثبات أسطوري
وفي اليوم الثاني سيتم تنفيذ الحكم في قسم العدالة الناجزة وكنا نسميه قسم الطوارئ، وشاهدناه منصوباً في حبال مشنقة وسط هتافات عجيبة، ضد الراحل محمود محمد طه، وضد الإلحاد والشيوعية، ومؤيدة للإعدام، وكان هناك ممر بيننا ومكان تنفيذ الإعدام فوقفت هناك وحبيت أتكلم معه لكن لم أستطع لأن المسافة بيننا كانت بعيدة وعندما أقتادوه إلى حبال المشنقة كأنما ذاهب إلى عرس ويضرب الأرض في مشيته كأنما يقول مرحب بالموت، وكان وجهه مغطى وعنما علقوه بالمشنقة ابتدينا ننظر من مكان الصخرة التي حركناها من مكانها ورأيناه عندما ربط الحبل على عنقه كانت هناك مجموعة من الحضور تردد “زنديق زنديق يا محمود” وفي هذه اللحظة قام القاضي المكاشفي طه الكباشي، قال: انزعوا الغطاء من رأسه، وكانت الهتافات تتركز على هذ الكباشي، وعندما نزعوه فإذا بالشهيد محمود محمد طه، مبتسم وضاحك ومن شدة قوته وثباته؛ صمت كل الحضور.
لحظات الإعدام الرهيبة
وفي هذه اللحظة نحن بدأنا نهتف “شهيد شهيد يا محمود فاشل فاشل يا كباشي” و”لن ترتاح يا سفاح” وهتافاتنا لحقت أحد قادة العمل السياسي كان متحالف مع النظام آنذاك، وكنا حريصين أن يسمع محمود هتافاتنا وفعلاً وبعد ذلك تم تنفيذ الحكم وأعدم محمود وأصبح معلقاً، طبعاً هو نحيف جداً ونحيل جداً ووزنه خفيف جداً، لكن أفتكر أن لحظة الشجاعة التي رأيناها عنده والدرس الذي تعلمناه من صموده ومشيته وابتسامته لن نجده مرة أخرى لا في كتاب ماركسية لا غيره، وهذه لحظات إعدام الشهيد محمود محمد طه، التي لا أزال أتذكرها حتى الآن.
“شعب أكتوبر بكسر كوبر”
في انتفاضة أبريل رفضنا الخروج من السجن، لأننا ناس منظمين كانت لحظة جميلة جداً طبعاً أسوار سجن كوبر عالية ونحن جالسين ونستمع إلى الهتافات في الخارج لنتفاجأ بأن هناك أشخاص يتسلقون الأسوار العالية ويقتحمون السجن، وأتذكر أنني رأيت المرحوم حمدنا الله عبد الوهاب، وكان أحد عمال السكة الحديد وعصام علي عبد الحفيظ وصديق عبد الهادي يتسلقون السور، والشيء العظيم الآخر هو أننا كنا نسمع هتاف بالقرب من الباب الرئيس وكانوا يرددون “شعب أكتوبر بكسر كوبر” وكانو يحملون “ترلة قندراني ” معطل ومركون قرب البوابة ويضربون بها البوابة المنيعة وقاموا بتحطيمها عنوة واقتداراً ودخلوا إلى السجن وكان معنا الشاعر الراحل محجوب شريف، وكانت زوجته أميرة الجزولي، ضمن الذين اقتحموا السجن وتحوَّل المكان إلى منتدى للشعر وكان الناس يقولون لنا أخرجوا وقلنا لهم لن نخرج وقمنا بعمل اجتماع والقرار تشاورنا فيه مع جميع الأقسام في السجن وقلنا: لن نخرج إلا أن يعلن المجلس العسكري الانتقالي بقيادة سوار الذهب إطلاق سراح المعتقلين وإلغاء قوانين أمن الدولة، لكن ماذا حدث؟
ضغط جماهيري
عندما زاد عدد الناس داخل السجن تعرضنا للضغط، قالوا لي: أعلن للناس القرار، وبينما كنت أقول لهم يا جماهير لن نقبل ما لن نخرج بـ… وجدت نفسي خارج السجن وحتى الأشياء الخاصة بي عدت وأخذتها في اليوم الثاني، أخرجتنا الجماهير من المعتقل وقالت لا: لبيروقراطية العمل السياسي، كان الجو لذيذ ومحجوب شريف، قال ما يقارب الخمسين قصيدة، ومكثنا ساعتين -تقريباً- منذ اقتحام الجماهير السجن لإخراجنا لكنها كانت شيء ممتع جداً مقارنة بالخمس سنين، التي قضيناها في السجن.

التيار

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..