الدوش … (خطابات في حمى الوطن)

محمد الأقرع
بعض الشعراء حين يتحدثون وينشدون في شأن الوطن غالباً ما يختزلون ويحصرون تصورتهم في حدود الرقعة الجغرافية وتضاريسها الطبيعة (النيل ، النخيل…الخ) ومن ثم يتسابقون فيما بينهم غزلاً فيه أو غربة، ولكن ونسبة لعمق رؤيته واتساع آفاقه كان الشاعر الراحل عمر الطيب الدوش ينظر للوطن ببعد آخر مختلف الزوايا ومرتبط بشكل كبير بقضايا ساكنيه وأحلامهم وانعكاساً لحالة الاحتباس التي تمر بها هذا البلاد منذ عقود، خرجت أشعاره محملة بأنين أوجاع ضياع أحلام الحياة الكريمة، رسم الدوش عبر كتاباته صوراً دقيقة الوصف لكل ما يدور داخل هذا الوطن (السودان) من صراعات وإخفاقات وحتى شكل الأمنيات . (الوطن لا يسُر) كان العنوان الأشمل لجميع كتاباته وأشعاره وتحت هذا العنوان كان يحمل العديد من الأحاسيس منها المتباكي الشفوق على حالة الوطن المزري ، ومنها المتفائلة الحالمة في التغيير فضلاً عن أخريات عكس رؤيته في كيفية الحل والخلاص .
رؤية الأديب للواقع دائماً تكون أكثر تعافياً وخالية من تشويش الغرض والآيدلوجيا وعلى تعاقب الحقب التي زامنها الدوش لم يكن الوطن في مقام للتباهي والفرح بل كان عليلاً أرهقته تنطعات السياسيين وعجز القادرين على التغيير وكان عمر الطيب الدوش في المقابل جريء في عكس تلك الحالة وصادق وكما يقول الشاعر محمد طه القدال في شهادة عنه: (كانت أبرز صفاته الشجاعة دون تهور. كان لا يتوانى أن يجابه كائناً من كان بالحقيقة الساطعة لا يثنيه عن ذلك شيء. ولقد شهدت له جملة مواقف مع أقرب أهله ومع أغراب، يفلقهم بالحق والرأي الشجاع في اللحظة التي ليس غيرها لحظة صدق فيصدعون له لا يستطيعون إلا أن يوافقوه على ما رأى في التو واللحظة) .
شجاعة الدوش في نثر أوجاع الوطن شعراً كانت ممزوجة بـ(شفقة) و وجعة على التردي تبين بين السطور والكلمات أحياناً يجاهر بها ويخرج صارخاً (يا يُمَّه واااااح..يا حِلَّهْ وااااح) . وجعة الوطن لدى الدوش تتحول مباشرة لنبرة احتجاج وتساؤلات مثلاً يقول:
يا وطن! يا بيتنا
ليه ما تبقى لينا الساس
قَدُر ما تجري فيك أفكار…
يزيدوا الحَبْس والحُرّاس
قَدُر ما تجري فيكْ الخيل
تَدُوس الهيبَهْ والإحساس
صورة البلد في شعر الدوش كانت توضيحاً لهموم الناس.. ولعل أبلغ وصف لحالة المواطن البسيط في كتابات الدوش ذاك النص الذي استعان فيه بالساقية كرمز للكدح المتواصل دون توقف وكانت القصيدة التي تغنى بها الفنان حمد الريح وتقول في بعض مقاطعها:
الساقيَة طاحونة الأنين
طُول الليالى مدوِّرَهْ
تحت الظلام تحت المطر عز ِالشتا
الساقيَة ثانيَة تقيف تكون
آمال عريضَهْ مُشَتّتَهْ
وأكباد صغيرَهْ مفتّتَة
الساقيَهْ لا زِم تستمر
لم تنفصل أبداً أشعاره العاطفية عن حال البلد وقضاياه في بعض الأعمال تقرأ له نص يبتدره في غاية الغزل ولكن سرعان ما يتحور ويصطحب فيه ذكر الوطن، نصوص أخرى تفهم في عدة سياقات (الحرية ، الحبيبة …الخ) ومن أشهرها قصيدة بناديها التي تغنى بها الفنان محمد وردي:
بناديها
وبعْزِم كُلّ زول يرتاح
على ضحكَة عيون فيهَا
وأحْلم أني في أكوان
بتْرحَل من مراسيها
عصافير نبّتَت جِنْحات
وطارت للغيوم بيهَا
مسافرِ من فرح لي شوق
ونازِل في حنان ليهاَ
الأطفال والتلاميذ شكلوا حضوراً كبيراً في أعمال الطيب الدوش وكانوا مسار تعويله في التغيير كان يخاطبهم بلغة لطيفة محببة (“يا تلاميذي العزاز “مثلاً)، أيضاً البعد الدرامي كان حاضراً في جميع أعماله، النصوص كانت عبارة عن مسرح متكامل (قضية، شخوص، ديكور، حركة، مشاهد، حوار…الخ) في هذا الذكر يمكن استعراض تفاصيل الحوار الذي دار بينه وبين العمدة في قصيدة (سعاد) الشهيرة والذي يمثل احتجاجاً آخر في بعض الممارسات التي تصدر من بعض سياسي التعبئة و (الخم).
الدوش كان يمتلك قدرة كبيرة في استقراءات المستقبل حال الوطن الآن وصفه بدقة وتنبأ به كانت لديه أشعار تشير لانفصال السودان وأخرى توعد بضيق الحالة أكثر (أسأل عن بلد رايح، ضلمت) ، عموماً ورغم كل الخوف والحب والشفقة ظل نفس الوطن يتنكر للدوش كل يوم، فقد تم فصله من معهد الموسيقي بدعاوى غريبة، وبعد وفاته خرجت أصوات وكتابات ركيكة من شخوص ظل يرهبهم حياً وميتاً استكثرت حتى الاحتفال بذكره ولكن دائماً الانتصار يكون للأديب والمبدع والفن أما الزبد فيذهب جفاءً…
ولولا الذكرى .. مافي أسف
ولا كان التجنِّي وقَف
وصوت ذكراكْ رذاذ صفّق
على خطوَة بنات سَجَعَن
وشوق رؤياكْ حنين لي
غيبَهْ في المجهول
ولولا الذكرى مافي وصول
ولولا الذكرى مافي أصول
ولولا الذكرى مافي شجن
سحابات الهموم ياليل.. بكن..
بين السكات والقول
وباقات النجوم الجن يعزن في المطر
فاتن عزاك رجعن..
الجريدة