مقالات سياسية

حينما يلتبس الفكري بالسياسي/الأيديولوجي تنطمس الإشراقات إشراقات الدولة المدنية مِثالاً.

حسين أحمد حسين

(أ) حُبابة

من أعظم ما أنتجه الفكر التقدمي السوداني للإنسانية من منطلقات وعيه بحيثيات الواقع السوداني ومتطلبات الثورة الوطنية الديمقراطية (أعنى الحزب الشيوعي السوداني، أعنى على وجه التعيين المفكر محمد إبراهيم نقد رحمه الله) هو الدولة المدنية. والدولة المدنية، بالقراءة الما وراء ? أيديولوجية/الدلالية (Symptomatic Reading) لفكر الأستاذ المرحوم محمد إبراهيم نقد، ليست تُقية سياسية كما يراها اليمين بعد فشل أيديولوجيا “الإسلام هو الحل”، أو كما يتأوَّلها اليسار بعد وصم علمانيته بالإلحاد؛ بل الدولة المدنية عند المفكر نقد نابعة من بحث دؤوب ومثابر لإيجاد حل لِأعقد قضايا السودان المصيرية وأكثرها حساسية وهى علاقة الدين بالدولة.

(1)

غير أنَّ الدولة المدنية تُرِكت غُفلاً ? فى البدء ? بطُغيان نُقد السياسى على نُقد المفكر فى إطار الوضع السياسى الراهن المتأزِّم الذى يتطلب ذلك، وبسيادة الأيديولوجى على الفكرى داخل الحزب الشيوعى السودانى. الأمر الذى جعل الدولة المدنية مفهوماً يستنكفه الغرب “النَّزيه” باعتباره مصطلحاً شرقياً غير معروف بالنسبة لهم، ويتبناه الشرق “الغير نزيه” ويدَّعى اشتاققه من الفلسفة اليونانية القديمة وعصر التنوير برغم استنكاف الغرب له؛ وهو بعد مصطلح سودانى بحت.

(2)

فى إطار بحثى عن البيئة المناسبة لإنبات دولة المفكر/الفيلسوف نقد (رحمه الله) المدنية – التى أرى فيها إشراقاً فكرياً عظيماً على المستوى الشخصى – أجدنا فى الواقع أمام عدة إشكالات:

الأول، أنَّ الدولة المدنية فضاؤها العقل الحر والتفكير الحر الغير مُقيَّد بأىِّ شئ. وهذا الأمر دونه عقبات إجرائية داخل مؤسساتنا السياسية الحزبية جميعها: كالديمقراطية المركزية عند الحزب الشيوعى السودانى والأحزاب التقدمية الأخرى، وكالنظام الأبوى فى الأحزاب الأخرى المتسربلة بالدين.

ثانياً، الثورة الوطنية الديمقراطية عند المفكر نُقد لا تبدأ من المضمار السياسى بحسب القراءة الدلالية لفكره، ولكنها تبدأ من المضمار الإقتصادى؛ أى تبدأ من توازن وديمقراطية واستدامة المعادلة الإنتاجية/الإقتصادية (العمل + رأس المال + التنظيم + الأرض + أُخرى = العملية الإنتاجية/الإقتصادية = الإنتاج = الثورة الوطنية الديمقراطية فى نهاية التحليل.

وما لم يكن هناك تمثيل لشركاء العملية الإنتاجية (ذات التوليفة المثلى لعناصر الإنتاج) فى المؤسسات السياسية (حزب للعمال + حزب للرأسمال + حزب للتنظيم (أحزاب الوسط) + حزب الأرض – عنه بورجوازية الدولة المحايدة إفتراضاً)، فلن تكون المعادلة الإقتصادية ديمقراطية ولا متوازنة ولا مستدامة، ولن يحدث أى استقرار سياسى فى السودان.

هذه المعادلة إذا أنزلناها من التجريد إلى أرض الواقع؛ حيث أنَّ هناك 75 حزباً مسجلاً تسجيلاً رسمياً فى السودان بحسب سودانتريبيون 2014، نجدها (لا يوجد حزب للعمال/صفر + 3 أحزاب رأسمالية + 72 حزب وسط بما فيها الحزب الشيوعى السودانى نصير العمال عبر تاريخه + بورجوازية الدولة المحايدة إفتراضاً) متحيزة رأسمالياً. وهذا التحيُّز سببه غياب حزب العمال عن الساحة السياسية، وبسبب أنَّ أحزاب الوسط تميل بطبيعة تكوينها الطبقى للتحالف مع شرائح رأس المال خاصةً فى غياب حزب العمال، وبسبب أنَّ بورجوازية الدولة تفقد حيادها فى إطار تشكل إقتصادى إجتماعى يقوم على الإبتزاز المباشر للعمل وتكوِّن مع أحزاب الشرائح الرأسمالية حلف القوى الإقتصادى خاصة فى غياب حزب العمال، وبسبب أنَّ الغرب لا يريد حزباً للعمال فى السودان؛ وبالتالى فهى غير متوازنة ولا ديمقراطية ولا مستدامة ولا مستقرة.

إذاً، لتكون هذا المعادلة متوازنة وديمقراطية ومستدامة وغير متحيزة رأسمالياً ومستقرة لابد، من إيجاد حزب للعمال ليناصره (من يناصره من أحزاب البورجوازية الصغيرة) الحزب الشيوعى ويتحالف معه لانجاز قضايا العمال التى لطالما انتظر العمال إنجازها لأكثر من ستة عقود؛ وهنا تنشأ الإشكالية الثانية:

هل يستطيع الحزب الشيوعى السودانى (كحزب وسط/كحزب بورجوازية صغيرة، وكل الأحزاب الأخرى المناصرة للعمال) الذى ضحَّى بأوسم المفكرين السياسيين فى أفريقيا والوطن العربى من أجل قضايا العمال، أن يعترف فقط بأنَّه حزب بورجوازية صغيرة مناصر للعمال (وليس حزباً للعمال)، وبالتالى ينهض لمساعدة العمال لإنشاء حزبهم (كما نهض من قبل وساعدهم فى إنشاء نقاباتهم) ويتحالف معه (وكلاهما يحتاج للآخر) لكى تتوازن المعادلة الإقتصادية وتصبح ديمقراطية ومستدامة؛ لتقود البلد نحو العمالة الكاملة فالثورة الوطنية الديمقراطية؟

ثالثاً، من الإشكالات التى عطلت/وتعطل من إنزال الدولة المدنية إلى أرض الواقع لمدة ثلاثة عقود هو استمرار علو النبر الأيديولوجى على الفكرى داخل هذا الحزب الشيوعى العريق الذى لا أجد له مبرراً بعد نهاية الحرب الباردة. الأمر الذى أدَّى إلى استمرار طغيان السياسى/الأيديولوجى على الفكرى فى ذواتنا؛ طغياناً أدى فى حدوده الدنيا إلى تغييب إشراقات فكرية عديدة لقادة هذا الحزب وأعضائه (أهمها فى تقديرى المتواضع هو الدولة المدنية)، وفى حدوده القصوى إلى إعدامات فاجعة واستعداءات لانهائية بواسطة اليمين السودانى (راجع بروفسير محمد محمود فى: د. الزيلعى 2016).

وبالتالى ما لم يطغَ الفكرى على السياسى فى ذواتنا – والوقت مواتٍ لذلك بعد نهاية الحرب الباردة كما أسلفت – لن نرى الإشراقات الفكرية العديدة لقادة هذا الحزب من لدن د. عبد الوهاب زين العابدين إلى الأستاذ المهندس الخطيب (وكلٌّ له إشراقاته حينما يخرج من ضيقِ الأيديولوجيا إلى وُسْعِ العلم)؛ وهذا ما جعل الدولة المدنية تُترك غُفلاً ولا يهتم بها أحد؛ حتى بدأ يتلقَّطُها العديد من الكتاب الشرقييِّن وينسبونها إليهم. وهذا الخيط/المد الفكرى المنطمِس بالسياسى والأيديولوجى يجب أن ينقشع ويظهر ويصدع؛ وبالتالى نعيد قراءة كل قادة هذا الحزب الوسيم من وجهة النظر الفكرية المحضة؛ فهناك الكثير الذى يُرتجى من هكذا قراءة دلالية.

(3)

الحزب السياسى هو بطبيعة الحال مخطط سياسى مستقبلى للوصول للسلطة. وهذا المخطط لا يتطور بألاعيب السياسة اليومية (بالفكر اليومى كما يُسميه مهدى عامل) التى تمارسها سيئة الذكر الإنقاذ المنتحرة فكرياً الآن، ولكن بالفكر البصير المثابر الدؤوب. وعليه لابدَّ من خلق دوائر فكرية حُرَّة (حرة بالمعنى الحرفى للكلمة) داخل أحزابنا السياسية لإنتاج معرفة مُطوِّرة لسياسة هذه الأحزاب فى إطار نظرة كلية شاملة لحل المشكل السودانى بعيداً عن النزق السياسى والأيديولوجى.

(4)

لفتت نظرى مناداة حصيفة لخلق كيان سياسى إسمه “حزب الوسط”؛ فليته يجمع شعث أحزاب الوسط الـ 72 المذكورة بعاليه تحت مظلةٍ واحدة أو إثنتين أو ثلاثة، بدلاً من أن يكون هو الحزب رقم 73 لأحزاب الوسط.

فظاهرة إلتفاف المتعلمين السودانيين طائفياً حول شرائح رأس المال وفقدان الهوية السياسية بالنسبة لمعظمهم، قد بدأت بعد القضاء على ثورة 1924 المجيدة خاصة مع غياب حزب للعمال لظروف ضعف الطبقة العاملة المعروفة آنذاك. أما صحوتهم (برغم تشرذمهم فى 72-73 حزب فى الوقت الراهن بسبب الغياب الغير مبرر لذات حزب العمال حالياً) بسبب حالة الفرز الطبقى الحاد التى يمر بها السودان منذ ظهور سيئة الذكر الإنقاذ، فمسألة محمودة.

وليكتمل المشهد الإقتصادى والسياسى فى البلد؛ ولتقف شريحة بورجوازية الدولة على الحياد الحقيقى المراقب والمضبوط، فلابد من إنشاء حزب (أو إثنين أو ثلاثة) للعمال، لتناصره بعض أحزاب الوسط (كما يفعل الحزب الشيوعى السودانى المجيد مشكوراً) لتتوازن العملية الإقتصادية والسياسية لخلق واقع من العمالة الكاملة؛ تقود البلد نحو الثورة الوطنية الديمقراطية فى نهاية التحليل.

(5) خاتمة

فحزب ? أو إثنين أو ثلاثة – جامع للعمال (الصناعيين والزراعيين وغيرهم) + أحزاب الشرائح الرأسمالية الثلاثة (وإن زِادت قليلاً أو نقصت) + 7 أحزاب للوسط (بعضها سينحاز رأسماليا، والآخر سينحاز عمالياً بطبيعة الحال، وربما تمترس أحدها فى الوسط) = معادلة إقتصادية وسياسية متوازنة، فى حالة عمالة كاملة، ضامنة للتغيير البصير، وموصِّلة للثورة الوطنية الديمقراطية (الأعداد المذكورة هنا للتمثيل فقط، والديمقراطية المذكورة هنا هى الديمقراطية الليبرالية).

حسين أحمد حسين،

بورجوازى صغير منحاز لقضايا العمال.
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. لا اعتقد ان السودان مر بتجربة حكم البرجوازية لان اغلب حقب الحكم في السودان كانت عسكرية ديكتاتورية ،عموما فكرة حزب العمل فكرة عظيمة وملهمة خاصة في بلد تعتمد مجتمعاته على الرعي والزراعة التقليديين ؛ في ظني ان المرحلة المناسبة لطرح الفكرة والمدوالة الفترة الانتقالية . ولان السودان في هذه المرحلة مرحلة الحيرة كحيرة فلادمير في كتابه المعنون (ما العمل )

  2. لا اعتقد ان السودان مر بتجربة حكم البرجوازية لان اغلب حقب الحكم في السودان كانت عسكرية ديكتاتورية ،عموما فكرة حزب العمل فكرة عظيمة وملهمة خاصة في بلد تعتمد مجتمعاته على الرعي والزراعة التقليديين ؛ في ظني ان المرحلة المناسبة لطرح الفكرة والمدوالة الفترة الانتقالية . ولان السودان في هذه المرحلة مرحلة الحيرة كحيرة فلادمير في كتابه المعنون (ما العمل )

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..