روضة الحاج والتجريد في ” المجرم الحقيقى هو النيل!”

محمود محمد ياسين
قبل كل شيء فإن التجريد المقصود في هذا المقال هو الفصل العضوى بين مكونات ظاهرة ما ودراستها بعيدا عن الواقع خلافا للتجريد الذى يجرى تفكيكا للمكونات الأساسية للظاهرة بغرض دراستها ذهنيا وإعادة صياغة الواقع الملموس وبالتالي معرفة طبيعته المعقدة والمركبة في كليتها. والتجريد بالمعنى الثانى لا غنى عنه في دراسة الظاهرات الاجتماعية والأعمال الأدبية؛ وبهذا المعنى فإن التجريدات الذهنية تنطلق من الإدراك الانطباعى الأولى للواقع الحسى وتعود مرة أخرى للواقع وقد اصبح مُدْرَكاً، بينما التجريد الأول هو الفكر الذى يحلق في سماوات عالية من التأمل ولا يدرك ابدا الكنه الحقيقى للواقع. وبالنسبة للشعر، فإن التجريد التأملى لا يعصمه من المباشرة؛ وليس المقصود بالمباشَرة الدلالات اللغوية المباشِرة، بل عدم المقدرة على تجاوز ما هو ظاهر من الواقع والعجز عن فهم تركيبه الداخلى وإعطاء مقوماته معان خارج المألوف.
تتضمن قصيدة ” المجرم الحقيقى هو النيل! ” للشاعرة روضة الحاج في مطلعها أبياتا تعكس صوراً مؤثرة لمأساة غرق أربعة وعشرين تلميذاٌ من مدرسة “ كنبة” الثانوية في وسط منطقة المناصير عندما تعطل محرك مركبهم في عرض بحيرة سد مروى وقت الفيضان؛ من هذه الصور تكتب الشاعرة متضرعة إلى “الصبر”:
والبِس جميعَ الصابرينَ دثارا
الرابطين على حشاهم صخرةً
لفوا العمائمَ هيبةً ووقارا !
ربِّت على أمٍّ كأنَّ بقلبِها
ناراً ستُشعل من لظاها النارا
ما زالُ مِشطُ الحبِّ في يدِها فقد
كانت تُجدِّلُ خمسةً أقمارا !!
لكن تتملكك الحيرة عندما تواصل قراءة القصيدة وتقرأ هذه الابيات:
يا صبرَ كلِّ الأرض
كن أوفى لنا
من نيلنا فلقد غدا غدّارا
يا نيلُ فلتردد عليَّ قصائدي
لا تستحقُ الشعر َوالأشعارا
إرجع إلى الأزهارِ فوحَ عطورِها
وأمنح بقيةَ شدوها الأطيارا
وأعِدْ إلى كلِّ المراكبِ حبها
واستغفر الزُرّاعَ والسمارا
إذا تركنا جانباً تقنيات القصيدة ومدى جمالية شاعريتها، فمصدر الحيرة هو أن الشاعرة لا ترى في المأساة الرهيبة غير خيانة النيل وغدره. طبعاً لجوء الشعراء للغلو الميلودرامى في بعض اللوحات الشعرية-الشكلية (كلَوْم وتوبيخ النيل هنا) كاداة يستخدمونها للتعبير المكثف عن أحاسيسهم مسالة مفهومة، ولا يمكن محاكمة هذا الأسلوب وتحميله أكثر مما هو مجرد تخييل؛ لكن، في وقوفها عند حد معاتبة النيل، فإن الشاعرة اختارت أن لا يكون للحادث أي امتداد يشمل مكونات الصورة الكلية التي حدثت في كنفها فاجعة موت التلاميذ غرقا. فالفكرة التي تُحمِّل وزر الكارثة في هذا المقام إلى النيل بسيطة تجرد الحدث من وقوعه في تزامن مع مظالم كبيرة حاقت بمواطني المنطقة، التى شهدت المصيبة؛ فهم يمرون بأجواء من الخذلان السياسى الذى تعرضوا له نتيجة إنشاء سد مروى على نهر النيل في العشرية الأولى من هذا القرن إذ جردوا من الارض التي غمرتها مياه البحيرة التي خلقها السد وهجروا قسرياً بعيدا عنها إلى أراضي اقل جودة بعد أن خُصصت الآراض القريبة من النهر للإستثمار. كما أن فصل مياه البحيرة لمناطق سكناهم وتحويلها لأطراف مفصولة عن بعضها البعض ضاعف من معاناة الأهالى منها تلاميذ صغار يتكبدون المشاق عند عبور مياه الفيضانات العاتية على ظهر مراكب بالية للوصول لمدارسهم.
إن غرق تلاميذ المدرسة المذكورة هو فصل جديد (بالطبع الأكثر مأساوية) من فصول الرزايا التى أحدثها توسع النهر بالمنطقة. فبحيرة الخزان لم يغرق فبها أولئك الصغار فحسب، بل غرقت فيها قرى عتيقة وبساتين النخيل وكل ممتلكات المواطنين الذين تحطمت حياتهم وضاعت آمالهم وتُركوا يواجهون مصيرهم لوحدهم في غياب الخطط البديله لإيوائهم.
وهكذا نجد أن التجريد جعل القصيدة تفصل مأساة الغرق وتعجز عن تضمينها في لوحة كلية لما تمر به المنطقة من محن.
ولا تثريب على الشعر الذى تُوظف فيه رؤى سياسية؛ فالشعر الذى يتناول القضايا السياسية يبقى شعراً طالما لم تهيمن قواعد النقد السياسى والمباشرة على الشروط الفنية والمقالة السياسية تبقى نثراً حتى لو تألق الإبداع فى صياغتها.
القصيدة في منتهى الروعة – ان جاز لنا وصف الحزن بأنه رائع – او فلنقل انها في منتهى النبل، حيث لا حرج في وصف الحزن بالنبل كم هو اسم رائعة مصطفى سيد أحمد.
لقد عبرت الشاعرة في صدق عن حزنها العميق ، والقت اللوم على النيل الذي تغنت له كثيرا” من باب محبتها له، وهي تريد ان تقول له ما كان من طبائعك الغدر ايها النيل العظيم. ولا أعتقد ان المطلوب من الشاعرة الكبيرة ان تعقد محاكمة سياسية للنظام كما يود البعض، وهي لن تحاكم النظام لأنها جزء منه ولكن هذا لا يطعن في كونها شاعرة يجب أن يفخر بها كل السودان.
ان أهالي الأطفال انفسهم لم يحاكموا النظام وانما كانت كلماتهم كلها تسليما” بالقضاء والقدر، ولو كنت أحدهم لوجهت كلامي مباشرة للرئيس وحملته المسؤولية وربما كان ذلك شرارة” لاندلاع ثورة شعبية عارمة تقتلع النظام، ولكنها عادة السودانيين الذين لا يحسنون استغلال الفرص كما يجب، ويجعلهم بفهمهم القاصر للقضاء والقدر يعزو كل كارثة لهما.
لقد اسقط الشباب في مصر نظام مبارك وكانت الشرارة مقتل أحد المعتقلين تحت التعذيب من امن النظام.
لم يمت هؤلاء الاطفال الميامين بفعل القضارء والقدر ولكن بسبب الاهمال والفشل والجشع، لو استغلت الاموال التي تجبى من أطفال الدرداقات وستات الشاي في بناء مدرسة بتلك القرية المنكوبة لما ذهب هؤلاء المساكين للنيل، كانوا وقتها سيكونون في الفصول او في بيوت امهاتهم، ولكن تلك الاموال تستغل في بناء القصور والفلل لاصحاب الوجوه المتوضئة والذهب و الحلي والعطور لاخوات نسيبة.
لقد عبرت الشاعرة الكبيرة عن المأساة بصدق وبحروف تقطر دما”، وخرجت القصيدة في ذلك الثوب الحزين، فلا تجعلوا السياسة تفسد علينا كل شيئ حتى الابداع والفن.
متى نفهم ما هو القضاء والقدر، والى متى نظل نعلق عليهما كل كارثة، ما كان الله قاسيا” ولا ساديا” (سبحانه) ليخطف خمسة زهرات من حضن امهن ،، لما خلقهن اذن؟ نحن الذين قتلناهن وليس الله الرحيم (سبحانك ربي).