وفي الجنوب يا ماتو رجال

عبد الله علي إبراهيم

متى ذكرنا انفصال الجنوب (وما انطوى عليه من تاريخ) غالباً ما رمزنا له من سيرة عِزابنا السياسيين . . . شرارنا. سنسترجع يوم ذبح الأستاذ الطيب مصطفى الثور الأسود في جمهرة من أنصاره كرامة وسلامة. واسترجع مثل الطيب كلمة حامضة للأستاذ باقان أموم عن “الغُسل” الجنوبي من أوساخ الخرطوم.
استرجاع هذه الرموز الخرقاء هو بعض شغب اللوم واللوم المضاد الذي طبع الخطاب الشمالي عن الجنوب بعد انفصاله. فالبحث جار على قدم وساق عن المذنبين الشماليين من تسببوا في كسر البلد. وهو بحث اقتصر على تعيين هذه الجماعة الشمالية التي ارتكبت هذا الإثم العظيم، أو التي كان لها زمام المبادرة فيه. والافتراض العظيم هنا أن الجنوب وجماعاته براء من هذا الإثم. ويفوت على زاعم هذه البراءة أنه ربما انطوى على سوء ظن بملكة الجنوبي على ارتكاب الإثم.
مررت بخبرين خلال أقل من سنتين جددا لي عقيدتي في أن انفصال الجنوب هو سوء إدارة مسرفة لاستثمار سوداني شمالي أغر في وحدة الوطن. فقد نشأت أجيال سودانية شمالية على أن الحفاظ المر على وحدة الوطن عبادة سياسية. فغرست الحركة الوطنية الباكرة وامتداداتها في الحركة الجماهيرية لاحقاً من اتحادات ونقابات هذه “التقوى” المدنية عميقاً في وجدان الشماليين. وتعريفي لهذه التقوى أنها سهر كل فرد على حدة أن يخدم هذه الوحدة في احتكاكاته حتى الفردية بالجنوبيين ما وسعه وبأريحية في قوله وفعله. فلم تكن وحدة السودان شأناً سياسياً للصفوة من الجانبين أحسنت أم اسأت. كان الشمالي الذي نشأ على هذه التقوى المدنية حريص على أداء التزاماتها في سبيل الوطن. فهي فرض عين.
ولا يجد هذا الاستثمار للشماليين العاديين في اتحاداتهم ونقاباتهم وأحيائهم اعتباراً من الصفوة التي وحدة التحليل عندها الحزب لا غيره. فمثلاً: متى قام منقلب منهم قال أول ما قال إن الديمقراطية فشلت. ويقصد بالأساس البرلمان وأحزابه المصطرعة (كما ينبغي بالطبع في ديمقراطية). ولو اكتفى بذلك لربما عذرناه مما أزعجه من شقاق الأحزاب. ولكن تساءلت دائماً: لماذا يردف ذلك بحل النقابات والاتحادات التي تمارس ديمقراطيتها الداخلية على خير وجه وتساهم في لم شعث الوطن الحزبي في كثير من الأحوال. وفي الحق إن ضغينة هذه الانقلابات على المنظمات الجماهيرية ربما كانت أمض من ضغينتها على الأحزاب.
الخبر الأول عن نبل الاستثمار في الشمالي جاء في مذكرات الأستاذ الهادي الشغيل على منبر “سودانيزأونلاين” في مقابلة مع السيد بول دينق شول (دينكا بور). نشأ بول في عطبرة، ودرس في مدرسة محمد علي، ثم مدرسة الخدمات الوسطى، ثم الصحوة الثانوية، فكلية التجارة بالخرطوم. ولعب للنجم الذهبي ناشئين، ثم التضامن، ثم حي العرب، وصعد مع نادي الهدف للدرجة الأولى. وواصل اللعب في الخرطوم. ثم مضى للجنوب بعد الانفصال. سأله الشغيل:
س: إذا قدر لك أن تزور مدينة عطبرة مجدداً ما هو أول شيء ستفعله بمجرد وصولك لها؟
ج: فور وصولي لعطبرة سأقبل ترابها، وأتمرغ على أرضها. وليصفني الناس بالجنون فلست أبالي. فهي مثل أمي أعطتني بسخاء. ومهما قدمت لها فلن أوفيها حقها.
وهذا بعيد بالطبع جداً من وسخ المدن الذي قال به باقان.

أما الخبر الثاني فوجدته في كلمة للصحافي الجنوبي سيمون دينق، محرر جريدة الوطن بجنوب السودان. قال فيه إنه أسِف لأنه لم يسمع بوفاة العمدة أحمد محمد خير السيد، عمدة كاب الجداد بمركز المسلمية، إلا بعد مرور عام مما يكذب أن العالم صار قرية مزعومة. وتعَرف سايمون على العمدة عن طريق مفارقة جعلها العمدة طريفة برغم منها. فقد استأجره أحدهم في 1997 لقطع سيقان القطن وحرقها. فعمل مع رفقته بالحواشة. ثم جاءهم رجل، بصحبته عمال زراعيون، وهم قريبون من اكمال العمل، وسألهم ما الذي جاء بهم إلى حواشته. ووضح لسيمون أنهم ضلوا عن الحواشة التي تعاقدوا للعمل فيها إلى حواشة عمدة كاب الجداد. ولما عرف العمدة منهم القصة ضحك عالياً ودفع لهم أجرهم مضاعفاً ولم يطلب منهم حتى اكمال العمل.
ثم جاء يوم سأل سايمون إن كان يذهب للمدرسة. ولما وضح له أن ضيق عيش الأسرة حال دون ذلك دفع له كل مستلزمات المدرسة في 1998، وطلب منه ألا يخبر حتى والدته بذلك. ولما فتحت الحركة الشعبية مكتباً لها بالقرية في 2005 تبرع لهم بسيارته الروزا ليأتي بقيادات الحركة من الخرطوم للقرية. وتكفل بضيافتهم. وظل يحث سايمون للتواصل الحميم مع اهل القرية ويكسر الحاجز القائم في نفسه منهم حتى صار واحداً من أبناء كاب الجداد.
لكي نفهم سماحة العمدة صح اعتبار خبرته الوطنية في اتحاد مزارعي الجزيرة منذ 1946 بجانب قيم من دينه ومن سماحة نفس شخصية. لقد وجد العمدة في سيمون مدخلاً ليتنفل بتقواه المدنية من أجل الوطن.
لا أعرف عدد المرات التي سمعت فيها أن استقبال المرحوم عقيد جون قرنق الاستثنائي في الخرطوم كان من أجل الرجل. ربما كان من بين المستقبلين من جاء حماسة له. ولكن الاستثمار (العشم) في الوطن كان أكبر سبب أكثر الشماليين للوفود لساحة الخضراء. وقد وفدوا بغزارة لساحات كثيرة مثلها عبر عقود طويلة ل”تشجيع الوطن”.

يوم ذبح الثور الأسود

 

عمدة جاب الجداد
بول دينق العطبراوي

[email protected]

‫18 تعليقات

  1. لقد أنكر الخال الانتكاسي قبل عدة أيام أن يكون قد ذبح ثوراً أسود عشية انفصال الجنوب .. ولعله يزعم أن هذه الصورة “فوتوشوب”.
    كلما رأيت الخال الانتكاسي وصنوه ربيع العبد العاطل تذكرت قوله تعالى (وكان الإنسان أكثر شيئٍ جدلاً).

    1. وأنكر دينق سودانيزأونلاين أن باقان قال وسخ الخرطوم. وقلت له الطيب نكر برضو. والشينة. ولكن مجرد إن الذبح والعبارة مما طغى في الخطاب عن الجنوب (صحا أم كذبا) لمؤشر لثقافة صفوية اكتنفت مسألة الجنوب ونهشتها نهش الكلاب الضارية.

  2. محاولة بائسة ويائسة أخرى لرفع اللوم عن أحبابك الإسلاميين ولا تريد أن تتحدث عن ٦ سنوات لجعل الوحدة جاذبة. طبعا الوحدة الجاذبة لم تكن بند مشاعر وعواطف كما تحاول أن تصور تفضل الشماليين بذلك بُل كان يعني في المقام الأول شراكة حقيقية في الحكم وفي دفتر الحسابات وتعني مواطنة حقيقية أساسها الدستور والحقوق الأساسية للمواطن. بالطبع سيتهرب أمثالك من الإقرار بإستهتار الإسلاميين بالإتفاقية كلها وبااجنوبيين وسيكذب العنصريون أنهم عنصريون

  3. شكرا استاذ عبدالله على هذه الكلمات الطيبات في حق عمدتي (حاج احمد) رحمه الله
    لازلت افتخر بانني احد ابناء كاب الجداد الصالحين، وفي الحقيقة لا يوجد في كاب الجداد من هم اراذل. هذا للامانة فقط.
    ومن هنا لهم مني كل الحب والاحترام

    1. وشكراً سيمون لأنك سجلت الواقعة شهادة عن النبل السوداتي الذي كان يجري تحت سطح السياسية. ورسمت لنا العمدة المرحوم بالقلم والصورة ليأخذ طريقه إلى إرشيفنا . . . بصعوبة.

  4. ..العنوان ( وفي الجنوب يا ماتو رجال ) : غلط الصاح ( وفي الجنوب يا ما ماتو رجال ) .. تصحيح لوجه الله..ابعت لينا شوال دقيق..بنبعت ليك شوال بصل اسلانج ..

    1. هذا مقطع من أغنية في 1955 تنعي رجالاً مدنيين صرف ماتوا لا يدهم لا كراعم في “تمرد” القيادة الجنوبية بما هو جنوسائد: الموت على الهوية. ومات جنوبيون كثر بالطبع. والمقالة نظرت من تحت سطح هذا الموت المجاني لخيوط فضية في شملته كما يقولون. وعرفتني بحب البصل كيف؟ ههه.

      1. لك التحيه يا بروف .
        الشغلانه لسع ما وقعت ليك . بعد تحصل مصيبه لواحد الناس الكانو بنصحو فيهو مرارا وتكرارا بقولولو ( ياما) نصحناك ما سمعت الكلام. ما بقولولو ( يا) نصحناك.. البصل غني بالمواد المضاده لاكسدة الخلايا في الاجسام الحيويه .
        عنوان المقال يكون ( وفي الجنوب يا ما ماتو رجال ).

  5. روعة يابرف كالعادة هل تصدق يابروف انا وبول دينق كنا بنشرب عرقى العيش سوا

    بالله ماتنسى مخطوطة”رجوع الشيخ الى صباه فى القوة على الباه”

    1. لماذا لم يرد غير العرقي على خاطرك وقلمك ما ذكرنا بول الجنوبي؟ قلنا مرراراً أنكم في اليسار الجزافي لا تعرفون عن الجنوب شيئاً غير شربهم للخمر التي هي غذاء في عرفهم كما تزعمون. تريدون السكر باسم التنوع وباسمهم. وبس.

          1. الإعتراف سيد الأدلة وكما حد سيدنا عمر بن الخطاب الصحابي الذي سكر في العراق بالإعتراف فقد قمت بفتح بلاغ في مواجهتكم وحكم قاضي جنايات بحري بجلدكم أربعون جلدة حدا وتعزيرا وينفذ حال القبض عليك في المطار وقدو قدو في إنتظارك يا مجاهر بالمعصية

  6. د عبد الله ، السلام والتحية ، لا اختلف معكم في أن “سماحة العمدة صح اعتبار خبرته الوطنية في اتحاد مزارعي الجزيرة منذ 1946 بجانب قيم من دينه ومن سماحة نفس شخصية ” وأود أن أضيف أن هذه السماحة صفة عامة في هؤلاء العمد والمشايخ ( اتفقنا حول نظام الإدارة الأهلية أم اتفقنا ) ، الكرم الشهامة ، السلوك الذي يصفه الفرنجة بانه ( grand) هو سلوك ( معظم) هؤلاء القوم ، ولعل هذه الصفات من المتطلبات اللازمة لشغل الوظيفة ( job requirements) رغم ان شغلها يتم عادة بالتوريث ، لك المودة

    1. شكراً للتعليق ولكني أسال: وهل استقى العمدة هذا النبل من الوظيفة؟ وهل في وصفها الكرم والشهامة؟من وصف الوظيفة الذي وقفت عليه تسخير الناس لخدمات الحكومة من طرق وطواريء. وفي أحوال أخرى لم يصمد العمد لدواع مثل هذا النيبل في مثل يوم الأحد الدامي 1964. أركز على التربية السياسة التي تستثمر الخير في الناس في مسألة الوطن كما فعل العمدة ومدينة كاملة تربيبول بين .

        1. متطلبات الوظيفة لا ” تستقى من الوظيفة ” وانما يشترط توفرها قبل شغل الوظيفة . قصدت ان هؤلاء القوم ، حنى الذين لم يرتبطوا باتحاد ولا نقابة ، تتوفر فيهم هذه السجايا و” كأنها” متطلبات الوظيفة توفرت فيهم فاستحقوا شغل الوظيفة ( كلام افندية!) ، وأزيدك أن هذه السجايا والصفات كانت قيم مجتمع وصفات بيوتات وأسر (!)

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..