ثقافة وفنون

من طرف المسيد: موسم القطط السمان

عادل سيد أحمد

عندما أُصيب الأسد بوكعة صحيّة، فوق أمراضه المزمنة من ضغط و سكري و التهاب مفاصل و تساقُط أسنان و بوادر الزهايمر، كانت اللبوة هي من إنتقلت إليها، تلقائياً، مسئُوليّات إدارة شئون الغابة…و لكن دون أن يشعر الأسد بذلك، بحيث كانت تشاوره في الأمر ثم تفعل ما بدا لها، دون علمه، لأنه كان يقضي باقي اليوم متأوهاً… بين الإستشفاء و الراحة…

و لأنه لم يكن يفقه كل ما يقال، و كانت سمات الأبهة و العظمة قد بدأت تفارقه رويداً… رويدا، بحيثُ صارت الحيوانات، بما فيها الحشرات من صراصير و قراد تمارس الشماتة بتشفي و تكتم ضحكاتها من كلامه المفكفك و المُضطرب في الإجتماعات الصباحيّة التي كانت تعقد في الساحة المقابلة للعرين، و ذلك لقرب تلك الساحة من بيت الأسد الذي لم يعد قادراً على المشي : (ذي عهدُو الأوَّل)…

و طلبت اللبوة من جميع الحيوانات، بخطابات تسلمها كل قطيع على حده، باليد: عدم إزعاج الأسد بأي حال من الأحوال في الإجتماعات الصباحيّة، و طلبت منها كذلك قطيعاً فقطيع إلا تأكل شيئاً دون أن تتأكد من تناول الأسد لطعامه و إمتلاء كرشه و ثبوت إحساسه بالشبع… و أن تكون هي و طعامها رهن اشارة الأسد، حسب جوعو و قرمتُو، بحيث يأكل ما يختاره مزاجه المريض في كل مرة دون التقيد بحجم الحيوان أو لذاذة لحمه أو أي اعتبار آخر يطرأ بموجب حالة العكننة الصباحيّة الناشئة عن المرض العُضال.

و لأن الأسد كان فريداً في عصره و كان قد أصابه نقصٌ في الأشبالِ و اللبوات الصغيرات، فقد إختارت اللبوة كبير القططة نائباً له، في العلن و عيناً لها وسط جميع حيوانات الغابة سرّاً… و بموجب هذا الإختيار لزمت الفئران جُحُورَها خوفاً و رَهبة، و كانت تأتي و هي تحمل قلوبها في أيديها للساحة في الإجتماعات الصباحيّة المُرعِبة، و ما أن يختتم الإجتماع جدول أعمال حتى تتنفس الصعداء و تحمد سيدا و تفر على وجه السرعة لائذةً بحجورها مرّة أخرى في لمح البصر و رمشة عين، و هي تكادُ لا تصدِّقُ.

و لهذا السبب، الذي جعل من صيد الفئران مهمة عسيرة و شبه مستحيلة، إتجه القط المستوزر و معه بقية قطيع القطط بأكله، للإكتفاء بلحم الطيور، فبدأت بالعصافير و القُمري و الحمام، فسمنت، و تدرّجت حتى وصلت مرحلة أن تولم بالأوز وأبي مركوب و النعام.

و قد صادف أكلها – أي القطط- للنعام إرتياحاً وهوىً في نفس اللبوة و من بعدها الأسد، لأن الريش الذي كان يتوفر بعد كل وجبة نعام كان كفيلاً بإلإبدال الدوري لفرش الأسد، الأمر الذي حسّن من رائحة العرين، و جنب الأسد مزيداً من الإحراج أمام زوجته و هي تشرف على إبدال الفرشة عدة مرات في اليوم، لدواعي التخلص من الفضلات التي صار الأسد الآن، عاجزاً عن السيطرة على إخراجها من حيثُ الكم و التوقيت.

و لأن مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد، فقد شُحَّ الطعامُ، في تلك الفترة، من فئرانٍ و طيور: على الثعالب فهزلت، و شقَّ عليها فباتت تأكل من خشاش الأرض، و لكنها لم تكن قانعة بوضعها في الموسم الذي عرفته الغابة ب (مجاعة الثعالب)… أو (مُوسِم القطط السُّمان)…

و كانت اللبوة قد قطعت على نفسها عهداً بالمحافظة على رفاهيّة و هناء الأسد ما استطاعت، و من هذا المُنطلق، فقد كانت تصيد الضباع و ما اتيح من ذئاب و تطعم الأسد أفئدتها و كِبادها و كلاويها، و لكن لا فم الأسد الخالي من الأسنان و لا جهازه الهضمي الذي بات عاجزاً عن هضم تلك المطايب ساعداه في البقاء على قائمة الحيوانات اللاحمة، و بعد فترة قصيرة استطعم فيها الأسد الشوربة و الفتت، أنتقل إلى الزبادي و العسل و السمن البلدي، قبل أن يتحول نهائياً لتناول الأعشاب و ينتقل إلى خانة الحيوانات النباتيّة بلا رجعة.

و حسَّن تناول ملك الغابة (معاش) للأعشاب  و الخضروات، حسَّن من قوام صوفه و كساه بريقاً ولمعةً كانت زائفةٍ من حيثُ اتخاذها دليل صحة و عافية، كلمعِ سرابٍ يحسبهُ الظمانُ ماءً.

و لمّا كان الأسد قد بات عاجزاً عن مضاجعة زوجته، وجدت اللبوة نفسها، دون أن تشعر، مائلة للقط السمين و منجذبة له، و لكنها في صحوة ضمير رأت إن في مجرّد التفكير في ذلك القط المكتنز خيانة لزوجها و تهديداً للعرش و هدراً للعشرة، فاكتفت بمضاجعة ذاتها بذاتها، كلما واتتها الرغبة في إشباع رغباتها التى كانت تتاورها، و نادتها الطبيعة، بين الفينة و الأخرى.

كانت لقاءات القطِّ السمين و اللبوةِ راتبةً و منتظمة، و كانت تسبق إجتماعات ساحة العرين الصباحيّة العامة بفترة كافية، لتُنقِّح اللبوة ما يدلو لها به القط السمين من تقارير عن أحوالِ و شئونِ الغابة في الأمس، فتُحدِّد هي، لا هُو، ما يجب قوله للأسد و ما يجب الصمت عنه، و كان تبريرها الجاهز الذي لا يُدحض، الذي تُلقِهِ على مسامع الهر الدهين و الوفد المُرافق، في كُلِّ صباح:

 

  • (مزاجُو عَكْرَان!)…

 

كان كل يوم يمُر على الغابةِ يشهدُ تردِّي الأوضاع فيها، و تفاقم البؤس في أرجائها، فقد كانت قلوب القومِ، التي يحسبها البعضُ جمعاً، كانت شتَّى.

كانت القطط تسعى لوراثته الملكيّة من أبناء عمومتها الحاكمين من فصيلة الأسود، و لإختراق العرين، إقترح الهِرُّ الدهين، أن يقيم أحد القطط في العرين أو بجواره كمندوبٍ له و مراسل دائم، و سكرتير أوّل لزوجة الأسد، حتى تلم القطط بالأخبار في حينها فلا تتأخر عن درء المخاطر، سواء كانت تلك المخاطر تطال و تشمل صحة الأسد، أو سُلطة اللبوة، أو أمن الغابة بشكلٍ عام.

و قد أقرت اللبوة الفكرة و سمحت بوجود ذلك القط، و لكنها كانت تشك في كونه جاسوساً شخصيّا للهر الدهين، لأنه كان يسأل عن أشياءٍ أن تُبدى له: تسوءهُ، و يحشر أنفه في أضابير العرين و شئونه، بحيث بات يعرف أشياء أكثر مما يجب، و تفُوقُ في ثرائها و غزارتها كم المعلومات الكافية، والتي تحتاجها القطط لحماية العرين، ممثلاً في: ضمان عافية الأسد، و استتباب أمن الغابة و توطيد سلطة اللبوة، و مساعدتها في السيطرة المحكمة على مقاليد الأمور.

و عندما ساورها وفاضت بها الظُّنون، خبطته بيسراها ذات نهار قائظ، و أودت الخبطة بحياه الجاسُوس، على الفور، و قدمت من حساءه غداءً للأسد، استطعمه، و أكلت هي باقي لحم القط المُرسال، و نامت هانئة، إذ كانت تلك الوجبة، ألذ ما أكلت: منذ مرض الأسد، و نهوضِها الطوعي والطامع بأعبائه الثقيلة.

و لكن حساء القط  المرسال أضر بصحة الأسد، فأستدعت اللبوة هيئة أطباء العرين، و كان يرأسها كبير الضفادع، الذى أوصى بأن يتناول جلالة الأسد، حساءً مُضاداً، يُصنع من الطحالب و الفطريات، ليذيب دسم حساء القط المرسال و آثاره، و يُعيد لجهاز الأسد الهضمي عافيته و فعاليته السابقتين،  و لكن، غطسته اللبوة هو ذاته في حساء القواقع و الطحالب… لأن التماسيح أشارت بذلك، تسندها الخبرة و التجربة في ما يفعله حساء الضفادع من فعلٍ سحريٍ في تحسين حالة الأجهزة الهضميّة لها.

و باتت الجيوانات، مُحتذية حذْو الثعالِب، تتفادى الحديث أو مجرّد الظهور في إجتماعات الساحة الصباحية امام العريــن، و تلوذ بجحورها و مخابئها طوال الليل و آنا النهار، و لما لم يكن ذلك وحده كافيا، هاجرت بعضُ الحيوانات التي جُبلت على تحمُّل العطش، و التعايُش مع الجوع و المَسغبة، إلى: تُخُومِ و أطرافِ الصحرا ء التي كانت تطوِّق الغابة من الجهة الغربيَّة.

و خبا نجمُ الغابةِ بعد توهُّجٍ و طُلوع، و ساءت سمعتُها في الجوار و بين الغابات الصديقة، و أرسلت غابة الأبنوس عيونها، و مناديبها، و فِقدتها، و كان وفدها الأسمر كبيراً و مهيب…

و جاءت من غابة السنُط خلاصة التجربة عن هجرة الحيوانات الكبيرة و الصغيرة، و أثرها في الإقفار و انتاج الجدب، و حملت معها تقارير مفصلة عن طبائع الحيوانات و دورات حياتها و مواسم أفراحها و أتراحها، و مواقيت و أزمان هجرات الطيور… و مواعيد جية النوارس…

و لكن، لم تكن اللبوة على قدر المقام، من حيثُ الإستعداد للتخلى عن التعالي و الترفع و الأطماع، و كان الأسد قد فقد القدرة على السمع، و عمت بصيرته، و لازمته حالة من الحساسية تجاه كلام و نصائح الآخرين،  فعادت وفود الغابات خائبة من حيث أتت، لانها لم تجد كبيراً…

و كان عزاؤُها، أنَّها: تلاقت و تناقشت و تبادلت وجهات النظر بعدَ نُفُورٍ و قطيعة.

و كانت أحسن فرصة في انشاء العلاقة المشتركة قد أتيحت، من بين جميع وُفُود الغابات، أُتيحت لغابتَيْ: السُّنط و غابة الأبنوس… و أتفقتا، كعربُونٍ للصداقة الوليدة: تبادُل زياراتٍ يفترعُها الطيرُ المهاجرُ في مُوسمِ الشُّوق الحِلُو.

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..