القُبح الإفتراضي

من الأدوات المتاحة في مواقع التواصل الاجتماعي مثل تويتر وأنستغرام وغيرها، تلك التي بات يستخدمها الناس كلهم، كأنها خلقت منذ زمن بعيد، على الرغم من حداثة وجود الإنترنت، وحداثة مواقع التواصل أكثر، من الأدوات، أداة تسمح بربط أي شخص بأي موضوع يكتب، في أي صفحة وأي خصوص، ما دام من أراد ربطه يعرف حسابه والاسم الافتراضي الذي يستخدمه.
وعن طريق أداة الربط هذه يمكنك أن تستدعي الأصدقاء والأعداء على حد سواء، من تمتدحه ومن تذمه أيضا، ومن لا تربطك به أي علاقة، فقط علاقة الافتراض الجيدة أو المتأزمة. وأحيانا يجود أصدقاء مشتركون لأشخاص معينين، هم من يربطون الناس ببعضهم، رغما عن إرادتهم، وقد يسببون حرجا ما، وكنت مرة كتبت مقالا عن ادعاء المعرفة أمام كاتب أو شاعر أو ممثل نتعرف إليه مصادفة في طائرة أو مكان ما، ونخبره بأننا نعرفه جيدا وقرأنا له أو شاهدناه، أو استمعنا لأغانيه إن كان مغنيا، وذكرت تجربة لي مع شخص التقاني في سوق ولم يكن يعرف سوى اسمي، وصورتي التي يشاهدها من حين لآخر، وعرفت عدم معرفته بي حين تحدثت معه.
لقد قام أحد الذين قرأوا مقالي ذلك بكتابة فقرة ساخطة على صفحته، ينتقد فيها أسلوبي في التعامل مع الآخرين، وأطلق عليّ صفات لم تكن من طبعي على الإطلاق، مثل الصلف والأنانية، وأشياء أخرى، وما كان لي أن أقرأ تلك الفقرة المغمورة في صفحة من صفحات الإنترنت الكثيرة، لولا أن تطوع أحد أصدقائي، وربطني بها، وكان موقفا محرجا للذي كتبها لأنه يعرفني، ولم يكن يدرك أن نقده سيصلني، والحقيقة لم يغضبني ذلك الكلام الكثير المتجني والمتسرع، بقدر ما أغضبني الربط بموضوع يعرف الذي ربطني به جيدا، أنه ليس موضوعا سارا، لأحتفي به وأطلق صيحات الفرح حين أعثر عليه.
ومنذ أعوام كنت محكما في جائزة للقصة القصيرة، خاصة بإحدى الجهات، اعتادت على تنظيمها سنويا، وتلك مهمة لا أحبها فعلا، أي أكون محكما من الممكن أن يظلم أحدا، من دون قصد، أو تتحكم ذائقته الخاصة في اختياراته من الأعمال المشاركة، أيضا عدم ثقتي بأنني أفضل من الذين سأقرأ لهم، لكن دائما ما أواجه بضغوط من أصدقاء مشرفين على مثل تلك الجوائز، لجعلي في لجان تحكيمها، وأقبل على مضض. قرأت القصص وكانت في معظمها نتوءات غير أدبية، كتبت بلا دراية، وبهدف أن يحالفها الحظ وتدخل في تلك الجائزة وتكسب، غربلت تلك النتوءات واخترت منها ما ظننته جيدا إلى حد ما ويستحق.
كانت ثمة مشكلة في مثل تلك المسابقات وهي أن المحكم لا يقرأ كل الأعمال التي ربما تأتي بالآلاف، وإنما يقرأ ما يظنه المنظمون أعمالا من الممكن أن ترقى لتعرض على لجان تحكيم، وما تبقى ينتهي أمره ورقا مهملا، أو ملفات إلكترونية مهملة بالطبع.
كان أحد المشاركين، ولا أعرفه، ولم يصافحني اسمه في ما ورد إليّ من أسماء بقصصها، قد عرف بنتيجة المسابقة وأنه لم يحصل على جائزة، وكتب كلاما مؤلما عن الذي قام بالتحكيم، وأبعد قصته التي تستحق ألف جائزة، لولا الغباء والإقصاء، كان في الحقيقة كلاما ساما، ويؤكد بشدة على أن الكتابة لم تعد مضمارا نظيفا تركض فيه خيول الحروف الأصيلة، وإنما ترابا كالحا، وطينا ملطخا، تخوض فيه الأرجل كلها، بلا أي تمييز.
كتب الرجل تعابيره وكان يمكن أن ينتهي الأمر، لولا أداة القبح التي تربط الفرح بالكآبة، وتكئبه، تربط عدم المعرفة بالشيء، بالمعرفة به، وأحس بذلك الشعور الغريب، الذي أحس به دائما حين أصدم، والسؤال التقليدي الذي أسأله: ما قيمة ما ندعي أنه إبداع، ما لم يكن مطعما بالأخلاق؟
هناك نوع آخر من الربط، وهو ربط بشع يريد فيه من يكتب عنك شيئا، أن يصلك شخصيا لا خلال آخرين، هو يحمل خنجرا معنويا يوجهه إليك، ويتأكد له تماما أن الخنجر أصاب ضالته، حين تربط بموضوعه. بالطبع لا أعرف الهدف من ذلك، ولن أقتنع به أبدا، فالذي يملك رأيا سيئا حيال أحد، أو لا يرى أن شخصا ما قد أنجز شيئا ويريد أن يغتابه، فليفعل، وليكتب ما يشاء، وكلنا اتفقنا على أن الفضاء الافتراضي مفتوح للجميع بشتى أمزجتهم وآرائهم.
أكتب ما تريد ولكن لا تربط أحدا بكتابتك. هذا بالضبط ما أسميه القبح الافتراضي، أي صناعة عدو مفترض، ربما ما كان ليصبح عدوا لولا الخنجر المعنوي.
المشكلة أننا وعلى الرغم من كل ما نتحدث به عن مساؤى الإنترنت، خاصة صفحات التواصل التي يختلط فيها الحابل بالنابل، وما يمكن أن تبثه من سلبيات مثبطة للمعنويات، إلا أننا لا نتركها، نظل أوفياء لها أكثر من أي شيء آخر، والواحد منا بمجرد أن يستيقظ من النوم، ويلمس هاتفه، يمر إلى مواقع التواصل مباشرة، وقد يتفاعل فورا، يرد على الرسائل ويكتب منشوراته.
وقد كتبت مرة عمن يعلنون بأنهم سيغلقون صفحاتهم لفترة لإنجاز بعض الأعمال، ويغلقونها بالفعل، لكنك ما تلبث أن تراهم يتسكعون داخل تلك المواقع من جديد ولم تنقض على إغلاق الصفحات ساعة أو ساعتان. هذا شيء آخر بالتأكيد، إنه إدمان مؤلم، سنعود للحديث عنه.
القدس العربي



