مقالات متنوعة

منقة كسلا حلوة وصافي لونا!

كسلا اشرقت بها شمس وجدي فهي في الحق جنة الإشراقِ
وابنة القاش إن سرى الطيف وهناً واعتلى هائماً فكيف لحاقي
“توفيق صالح جبريل”
بعد الاعتذار لشاعر الأغنية ومؤديها، أجد نفسي مضطراً لكتابة هذا العنوان بالشكل أعلاه! ولو لم تكن منقة كسلا من النوع الممتاز لما شبه الشاعر محبوبته بها. وما جعلني أكتب هذا المقال قصة واقعية ومشهد حرّك وجداني حتى كدت أبكي على الحال التي وصلت إليها بلادي وأنا أراقب الوضع من هنا في ديار المهجر والغربة في رياض الخير بالمملكة العربية السعودية! باختصار، قبل يومين، دخلت إلى مكان مشهور، في أحد أرقى أحياء الرياض، يبيع الخضروات والفواكه. أنا أعرف أصحاب المحل جيداً؛ فكثيراً ما أتردد عليه لشراء ما أحتاج، كما أن بعض الصبية الذين يعملون به هم من شباب أهلنا الرشايدة الذين يسكنون قرية مستورة بالقرب من مدينة كسلا، وهم شعب لطيف يحب المزح؛ خاصة إذا علم أن لك علاقة ما بكسلا! عموماً بعدما اشتريت ما أحتاجه، وجئت لأدفع المبلغ المطلوب، قدم لي صحاب المحل كرتونة مانجو وهو يقول مازحاً: “أكيد إنك اشتقت لمنقة كسلا الصافي لونا يا زول”! فقلت له ومن منا لا يشتاق إلى مرابط خيله يا ترى؟ فقدم لي تلك الكرتونة التي زعم أنها طازجة من السودان، ويا ليت أنني لم أرها أبداً؛ لأن طريقة العرض والتعبئة وشكل المنتج كلها لا تسر ناظراً ولا مشترياً، مقارنة بما يوجد في ذلك المحل من بضائع ومنتجات زراعية وألبان جلبت من داخل المملكة وخارجها، فهي جيدة العرض والمنظر ومعقولة السعر، إلا منتجاتنا فهي تبدو كأن الذي جمعها وعبّأها ليس لديه أدنى فكرة عما يعرف بالجودة والعرض والطلب مما يحكم الحركة التجارية عموماً. حاول صاحب المحل إقناعي بالسعر الذي لم يكن يتجاوز عشرة ريالات سعودية بينما سعر كرتونة المانجو اليمينة يفوق الأربعين ريالاً، ولا ننسى أن هذه مما أنتجه المهندسون الزراعيون السودانيون في تلك البلاد العربية الشقيقة، إذ أن أهل اليمن السعيد لم تكن لديهم أدنى فكرة عن زراعة المانجو قبل أن يجلبها لهم السودانيون قبل عقود لا تتجاوز ثلاثة بأي حال من الأحوال! لماذا يكون شكل منتجاتنا بهذا القدر من البؤس الذي يدل على عدم العناية وسوء الاختيار حتى لكأننا أمة بلا ذوق ولا معرفة في المجال التجاري. لقد تساءل الأخ الدكتور التجاني عبد القادر في مقال له عن الذي يدير اقتصادنا في الوقت الراهن وخلص إلى استنتاجات يندى لها الجبين، وأنا أتساءل هنا عن الذي يدير حركة الصادر في السودان؟ وقد يعلم كثير من الإخوة عن تلك الباخرة التي كانت تحمل أعداداً كبيرة من صادر الأغنام والماشية والإبل ولكنها أعيدت من ميناء جدة؛ لأن المُصدِر لم يلتزم بما هو مطلوب من إجراءات التصدير على الرغم من توفر المحاجر البيطرية في كل من غبيش وحلة كوكو وبورتسودان وسواكن! يبدو أن التجارة في السودان لا تزال تعمل بطريقة “الجربندية” دون إدراك لما طرأ على التعاملات الدولية من تطور وضوابط يجب الالتزام بها في التعاملات التجارية كافة؛ خاصة بين الدول حتى لا نفقد أسواقنا في دول الجوار جراء تصرفات لبعض الأشخاص الذين لا تهمهم إلا مصالحهم الخاصة والضيقة. أين يا ترى الوزارات والإدارات الحكومية وأجهزة الرقابة الرسمية واتحادات أصحاب العمل والمصدرين وكل تلك المؤسسات المنوط بها مراقبة الصادر والوارد بطريقة تحقق المصلحة العليا لبلاد يشتكي اقتصادها من علل باتت مزمنة وتحتاج لعلاج جذري وناجع يضع حداً لمثل هذه التشوهات التي تسئ للمنتج السوداني بشكل واضح. من جانب آخر، تحدثت صحف الخرطوم في الأسابيع المنصرمة عن أن السودان قد خرج أو كاد من سوق السمسم بسبب المضاربات وارتفاع أسعار المنتج. بالله عليكم كيف يمكن أن ينصلح الحال مع غياب تام ومؤسف لكل أجهزة الرقابة في السوق بينما السودان الآن بحاجة لكل دولار أو يورو يدخل الخزينة العامة؟ وكيف يمكن الحصول على العملة الصعبة إذا فشلنا في زيادة إنتاجنا وعرض منتجاتنا بطريقة حسنة إن لم تكن متميزة حتى في أقرب الأسواق إلينا وأوسعها على الإطلاق؟ يا حضرات السادة، من التجار والمصدرين والمعنيين بهذه الملفات، إن التجارة في هذا العصر تجاوزت تلك الأساليب والطرق التقليدية، ودخل السوق منافسون كثيرون، يجيدون عملهم ويحرصون على سمعة منتجاتهم ومصالح بلدانهم، بينما نحن لا نزال نغط في ثبات ونوم عميق، والدنيا من حولنا تتغير كلما أشرقت شمس يوم جديد. إن الأمر لا يتعلق بتصدير المنتجات الزراعية والثروة الحيوانية فحسب، بل الحديث هنا عن منظومة إنتاج متكاملة تبدأ من الحقل والمرعى حتى يصل المنتج إلى المستهلك الأخير، سواء في الداخل أو الخارج، كما أن الحديث يطال العملية الاقتصادية والتجارية برمتها، وهي في الواقع تحتاج لقدر عالٍ من المعرفة والمهنية والاحتراف والتدريب والإتقان إذا كنا فعلاً نريد المنافسة.
محمد التجاني عمر قش
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..