مقالات متنوعة

قراءة متأنيَّة في أسباب إدمان الفشل

سأحاول أكتب تحليلا في محاولة لتشريح إدمان الفشل الذي لازمنا لعهود طال أمدها …ونبدأ اليوم بالمعنى الحقيقي للخبرة …

من الأشياء التي تزعجني هي عدم أخذ العبرة أو الاعتبار من أحداث مرت علينا مشابهة لواقع ماثل أمامنا ، بل يتم تكرارها بنفس الملابسات تقريبا في حين أنه من المفترض اكتساب خبرات للتعامل الوقائي أو إدارة الأحداث من منطلق تلكم الخبرات المكتسبة ، وعموما فإن تعريف الخبرة هو أن تستفيد من مواقف وأشياء خبرتها من قبل، وبالتالي ملكتَ عواملا وأساليبا تمكنك من التعامل معها بالصورة المطلوبة عندما تقابلك مرة أخرى، وذلك يشابه حالة اكتساب الجسم لمناعة من مرض ما عندما يُصاب به وبالتالي عند الإصابة به مرة أخرى نجده يقاومه بصورة أكبر تمنع ظهوره مرة أخرى وذلك لأن الخلايا المناعية قد خبرت هذه الجراثيم من قبل وعرفت كيفية التعامل معها بالصورة المطلوبة في المرات القادمة، ولكن واقع حالنا يُبيِّن تكرار نفس الأخطاء ونفس التفاعل الذي حدث قبلا وبصورة متكررة تثير الضيق والإحباط. وذلك يقودنا للتساؤل عمّا هي فائدة الخبرة وسط السياسيين والعلماء وكذلك اللاعبين إن لم تُترجم لواقع ملموس يَعبُر بالوطن أو بالفريق لبر الأمان عند هِيَاج بحر العواصف؟؟؟

من الأشياء التي تعيق العمل المنهجي المعتمد على وضع استراتيجيات هي أننا نستسهل الأمر الواقع والسير مع التيار ليجرفنا حيثما اتفق ، فالتغيير الملموس يحتاج لعزيمة وصبر ومثابرة ، ولتبسيط الأمر وبلغة ناس الكورة : فمثلا عندما نستهدف الحصول على لاعبي كرة قدم مؤهلين يصنعون بطولات، لابد أن يتم إعدادهم بطريقة علمية ويتعاقبوا على مختلف مراحل التدريب وذلك عبر مدارس سنية تصاحبها تجهيزات فنية وأكاديمية ونفسية في برنامج متكامل ومتواصل عبر عدد من السنين حتى يؤتي أُكله بالصورة المطلوبة، ولكن أصحاب القرار ترى الواحد منهم يقول : ننتظر كل تلك السنوات لتخريج لاعبين بتلك المواصفات؟ فيلجأون للاعبين الجاهزين والذين هم نشأوا بكل الأخطاء التي لم تجد حظها من التصحيح والتدريب في الزمان والمكان المناسبين، فتتم المزايدات وينتعش سوق السماسرة التي تسيطر عليه وتحكمه العشوائية وغياب كل ماهو علمي فتدور الساقية بنفس لحنها الحزين الذي لم يجلب فرحا ولم يحقق أملا ، بل يتم تسجيل لاعبين يتم شطبهم قبل نهاية الموسم أحيانا . ثم ننظر للمشاريع الزراعية والتي أصبح ذكراها فقط مدعاة للشجن الأليم بعد أن هجرها أهلوها نتيجة للمضايقات وعدم الرؤية الواضحة من قبل المسئولين ، بل (تشليعها من بنيتها التحتية كما حدث في مشاريع البساطة وأخريات غيرها كُثر في ولاية سنار أما ذكر سيرة مشروع الجزيرة فإن ذلك يستدعي كل أنواع الأسى والحزن النبيل … ويقول ليك نأكل ممَّا نزرع !!)
المثير للدهشة هو أن البلاد قد حباها المولى عزَّ وجل بخيرات وفيرة وثروات مهولة ، ولكن تجد الأتاوات والجبايات بمسمياتها المختلفة تقصم ظهر المنتج فتصبح الأسعار خيالية داخليا ، وأيضا غير قادرة على المنافسة الخارجية في الأسواق الإقليمية والعالمية ، في حين أن الواقع كان يفترض أن تدعمهم الدولة وتشجعهم ليحققوا الرخاء للبلاد ولو بعد حين ، وهنا المعضلة فمن يقومون على الأمر ليس لديهم الصبر لسياسات تحتاج لبضع سنين فيأكلون من الأخضر المتاح حاليا حتى لم يعد هنالك أخضرا ولا حتى أصفر !! ثم دعونا نتأمل الأعداد الهائلة من الشباب الذين يأتون من تلكم المناطق المنتجة وهم ينتشرون في العاصمة ويمتهنون مهنا تُعتبر خصما على إقتصاد البلاد وتعطيل لطاقات في عنفوان عمر العطاء والانتاج ، ولكن بلا شك نلتمس لهم العذر أحيانا فمناطقهم دُمِّرت اقتصاديا وانعدمت فيها أبسط مقومات الحياة الكريمة ناهيك عن الانتاج ، فمن المفترض أن ننقل المدنية والحياة العصرية للريف وليس العكس ليصبح جاذبا ومن ثمَّ تدور عجلة الانتاج والذي تدعمه الحكومات في بداياته ليعطينا الناتج الناجح في المستقبل القريب وتغيير الواقع المنهار .. ولكن دعونا نستحضر واقعا حديثا ألا وهو : ماذا فعلنا عندما توفرت لدينا السيولة المالية إبَّان الشراكة في العوائد البترولية مع الجنوب ؟ وتخيلوا حالنا الآن لو قمنا باستثمار تلك الثروات الهائلة في ترميم وإعادة تأهيل المشاريع الزراعية الموجودة أصلا وكانت من أنجح المشاريع على مستوى القارة والمنطقة ولكنَّا الآن نحصد مازرعناه …ولكن .. ويا لها من لكن !
من مُخرجات هذا العهد أيضا هو أن واقع حالنا اليوم تسيطر عليه العقلية المتعجلة ، فالكل يريد أن يصبح مليونيرا وفي أقصر وقت ودونما عناء وبأي وسيلة ، ولم تعد هناك موانئ صبر في نفوسنا ، فالكل في عجلة من أمره ويريد القفز بالزانة للعبور للرفاهية والغنى في حين أن معظم الرأسمالية الحقيقية في السودان ظل أصحابها ينحتون في الصخر ليحققوا ما حققوه من نجاحات ؛ خططوا وعملوا بجد وصبروا فنجحوا. ولكن نرجع أيضا ذلك لسياسات الدولة التي حطمت الطبقة الوسطى ‘ فتلاشت فلم يعد هنالك فاصلا بين الغنى الفاحش والعوز المتضور ..
وفي ذات السياق دعونا نتساءل لماذا كنَّا نرى موظفي الدولة بمختلف المهن يجوبون أصقاع البلاد شرقا وغربا وشمالا وجنوبا فيتشبعوا بحب تراب الوطن وأسهموا في نهضة تلكم المناطق ليس في مجال تخصصهم فحسب ولكن إثراءا للحياة الإجتماعية والثقافية ، بل نجدهم قد خلق صداقات ومصاهرات ظلت باقية وبعضهم قام بالاستقرار في تلكم المناطق بعد نقله أو بعد المعاش. وللأسف فقد تلاشت هذه الظاهرة وذلك لحدوث انهيار كامل في كل مناحي الحياة هناك والكل أصبح يشد الرحال صوب العاصمة التي أصبحت عبارة عن منطقة ريفية مترامية الأطراف تنبعث منها النتؤات وتنفجر جنباتها ، وأقولها صادقا : لن ينصلح لنا حالا إن لم نراجع سياساتنا تلك وبدأنا تعمير الأرياف والأقاليم والمشاريع وتشجيع الإنتاج بدلا عن العيش في جلباب الجبايات بأشكالها المختلفة .. والغريب أن حكومات الولايات وأذكر منها سنار بحكم معرفني بها .. أنهم يهدمون ما عمَّرته الأجيال السابقة من الأجداد والأعمام من رجال أحبوا بلدهم وأخلصوا لها ونجحوا ، ولكن يأتي من يدمر ويبيع حتى أدوات الترفيه من أندية ودور سينما ‘ بل يتعدى على (حيشان) المدارس !!! سبحان ما بين بشر وبشر !! لذا نعيد ونقول بأن مشكلتنا الأساسية إدارية .. ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب .. والتجرد ونبذ الولاءات للاشخاص والحزب للحفاظ على الوظيفة أو الموقع ..
اللهمَّ كاشف الغم مفرج الهم .. مجيب دعوة المضطرين إذا دعوك رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما .. أرحمنا وأحفظنا .. وأنقلنا لحال الطمأنينة والرضى والسعادة … آمين …

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..