المقالات والآراء

سيف إيلا هل يطال سودانير؟

محمد التجاني عمر قش

كانت طائرات الخطوط الجوية السودانية “سودانير”، حتى وقت قريب، تجوب فضاءات واسعة، وتعبر القارات انطلاقاً من الخرطوم إلى هيثرو وفرانكفورت ونيودلهي وباريس وداكار وأنجمينا ولاغوس وأديس ونيروبي وغير هذه من عواصم الدول والمدن الكبرى! وتقول الطرفة أن حجاج غرب إفريقيا كانوا يظنون أن حجهم لن يكتمل أو يقبل إلا إذا أقلتهم طائرات الخطوط الجوية السودانية من بلدانهم عبر مطار الخرطوم إلى جدة! وعندما بدأت موجة الاغتراب إلى دول الخليج العربي وليبيا، في سبعينات القرن الماضي، لم تكن سودانير هي الناقل الوطني فحسب، بل كانت جسراً للتواصل بين المغتربين وأرض الوطن، حيث كانت المطارات؛ خاصة في جدة والرياض، تكتظ بالمودعين والمستقبلين عندما تكون هنالك رحلة للخطوط الجوية السودانية. كنا نذهب إلى المطار على أمل أن نجد قادماً من السودان لعله يحمل لنا الأخبار أو الصحف أو شريط كاسيت نسمع منه الألحان السودانية، وربما يبلغ بنا الشوق درجة حتى نتوهم أننا نشم رائحة التراب السوداني. كم حملت سودانير من أزواج في رحلتهم الأولى خارج حدود الوطن فأصبحت تلك الرحلة جزءاً من بعض الذكريات الجميلة، وكم فرقت سودانير بين حبيب ومحب ظل كل منهما يشتاق ويحن إلى الآخر ولا يكون اللقاء إلا عبر ما تحمله الطائرات السودانية من رسائل أو تسجيلات صوتية! ونذكر في هذا المقام ما قاله العارف بالله أبونا الشيخ البرعي، رحمه الله، وهو يتحدث عن رحلته على متن الطائرة السودانية:

بالطايرة السـودانية … لي رسولنا قوماك بي

جواها حالي مكيف … بارد نسيمو مهيف

للزول يريح ويكيف … يتمني فيها يصيف

ما فيها جزء معطل … ولا جهازا بطل

سواقها ما بتمطل … ومضيفها جاك ما اتعطل

هبطنا جدة سلامة … وجاءتنا البشارة علامة

ومن هذا المنطلق نستطيع القول إن سودانير لم تكن مجرد شركة طيران بل كانت مصدر إلهام وفخر وإعزاز للشعب السوداني، وواحداً من عوامل أو عناصر تكوينه الوجداني وانتمائه الوطني، سيما وأنها، أي سودانير، هي شركة سيادية، إذا جاز التعبير، ما كان ينبغي التفريط فيها تحت كل الظروف، ولكن للأسف أصابها ما أصاب كثيراً من المؤسسات الوطنية بما فيها الخطوط البحرية السودانية التي كانت تنقل الصادر السوداني إلى أقاصي الدنيا ولكنها أصبحت أثراً بعد عين، أي مجرد ذكرى! ولسنا هنا بصدد الحديث عن النقل النهري، ذلك الشريان الحيوي، الذي كان يربط الشمال بالجنوب عبر النيل الأبيض، ولن يستطيع محمد ود الرضي، بعد ما حل بهذا المرفق، أن يقول رائعته الفريدة:

من الأسكلا وحلا

قام من البلد ولى

دمعي للثياب بلا

بي داهي العذاب حلا

بي تذكاره بتسلى

قلبي الذاب واختلى

وين بدر الكمال حلا

آه، ما أجمل تلك الذكريات والأزمان التي ألهمت هؤلاء المبدعين حتى خلفوا لنا هذا التراث الراقي! وبما أن الحديث ذو شجون لا يمكن أن نغادر هذه الذكريات دون الإشارة إلى سكك حديد السودان وما كانت تقوم به من دور اقتصادي واجتماعي عظيم؛ فقد كانت سبباً في صهر كثير من الأسر السودانية في بوتقة اجتماعية أثمرت أبداعاً خالداً مثلما نجد في قول الشاعر:

قطار الشوق متين ترحل تودينا

نشوف بلداً حنان أهلا ترسى هناك ترسينا

نسائم عطبرة الحلوة تهدينا وترسينا

نقابل فيها ناس طيبين فراقم كان مبكينا

بل أين مصلحة النقل التي كانت تتولى شراء وصيانة كل ما تملك الدولة من سيارات وتشرف عليها بكل نزاهة وشفافية منذ زمن الكومر واللاندروفر والمجروس قبل أن تظهر موجة البرادو واللاندكروزر وغيرها من السيارات الفارهة! سيل الذكريات لا ينقطع والملاحظات تترى ولكن دعونا نعود إلى سودانير التي لم يبق منها هنا بالرياض إلا مجرد لوحة كبيرة، باللونين الأصفر والأزرق، وتحمل شعار الخطوط الجوية السودانية المميز، معلقة على جدار عمارة بائسة، تقع في شرق أستاد الأمير فيصل بن فهد، في حي الملز، هنا في العاصمة السعودية الرياض! ومن الغريب أن يظل باب مكتب سودانير مغلقاً طوال اليوم ولا يوجد بداخله إلا بعض الطاولات والكراسي وأجهزة الحاسب الآلي والهواتف التي يكسوها الغبار وتبدو عليها الكآبة والبؤس. والأغرب من ذلك كله أن هنالك مديراً وموظفين يتبعون لشركة الخطوط الجوية السودانية ويتقاضون رواتبهم بالريال السعودي، إن لم يكن بالدولار الأمريكي، والخطوط السودانية، حسب علمي، ليس لديها رحلات من وإلى أي مطار بالسعودية الآن. إذا السؤال هو: ما سبب وجود هؤلاء النفر في هذا الوضع المميز بعدما انتفي مبرر وجودهم وتقاضيهم رواتبهم؟ فهل يا ترى سيطال سيف الدكتور محمد طاهر إيلا، رئيس مجلس الوزراء، شركة الخطوط الجوية السودانية، مثلما فعل مع هيئة الموانئ السودانية ومؤسسة السكر ومؤسسة الوحدة الجاذبة، أم أن شركة سودانير هي ضمن الخطوط الحمراء التي لا يمكن الاقتراب منها، ناهيك عن مسها بالإصلاح؟ سودانير هي إحدى المؤسسات السيادية؛ ولابد من التعامل معها بقرار سيادي يعيد لها مجدها.

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..