أخبار السودان

جوهر المأزق بعد اجتثاث البشير

يكمن في صعوبة تفكيك الدولة العميقة التي بناها بمنهجية إسلاموية

عدلي صادق

يصحّ القول إن ما يحدث الآن في السودان، يختلف في جوهره، عن كل الذي حدث في انتفاضات ما سُمي اصطلاحا “الربيع العربي” وإن كان يُشبهه على مستوى المشهد الأول، وفيه احتشاد الجماهير الشعبية ومطالبتها بإسقاط النظام.

فمن جهة، كان الأمر في التجارب العربية السابقة، يتعلق برأس النظام وأعوانه المقربين، وكان الناس يشعرون بأن زوال كوابيس هذه الحلقة الضيقة، من شأنه أن يفتح الطريق للتغيير الجذري، ومَرَدُّ هذا الإحساس، أسباب كثيرة مفهومة، لعل من بينها وأهمها كون المؤسسة العسكرية في بلدانهم شاسعة وشبيهة للمجتمع حتى على صعيد الصف الأول من قياداتها، وأن الدولة العميقة في بلدانهم لم تُبنَ على أساس أي مقاربة أيديولوجية تُقدم الولاء لها على الوطنية العامة، بمعنى أن الحزبية الدينية أو القومية المزعومة، التي تطيح مبدأ المواطنة وتميّز بين الموالين للمقاربة الأيديولوجية وسائر المواطنين، لم تكن واردة ضمن مساوئ الحكم، وكان العدل في الظلم يشمل الجميع.

أما الدكتاتورية في السودان، فقد تمثلت منذ بداية عهدها، ما يُسمى في الأدبيات السياسية مشروعا إسلاميا مزعوما، وفي هذا المثال تحديدا، كان المشروع يجتذب – كما في العادة- متعاطفين بسطاء وعاطفيين، من خارج حدود البلاد، ينامون ويقومون على افتراض أن هناك تجربة باهرة ستكون لها أصداؤها في الكثير من بلدان العالم الإسلامي القريبة والبعيدة.

لقد بدأ السياق واستمر لعقود، مشفوعا بالخطابية الكاذبة وإدعاء العنفوان والإيهام بوجود عروة وثقى مع رب العالمين، والضرب بقوة في المواضع والمناطق الاجتماعية الضعيفة، لإخافة سائر المواضع والمناطق، وكان السياق في حقيقته، شديد العفونة والغلاظة، منتجاً للبؤس، لم يسلم من أذاه صاحب الفكرة والمُنظّر الأول لها، وهو الشيخ حسن الترابي ومواليه.

فالضابط الذي زُرعت الفكرة في عقله، واختاره المُنظّر فرسا لكي ينطلق، أنس في نفسه القدرة على الخطابة الجامحة، ولمَ لا يكون عمر البشير نفسه، الزعيم والمُنظّر وبائع الوعود القصوى بجنان السماء وجنة الأرض، طالما أن الأمر في مبتدئه وخبره، كلام في كلام، تؤخذ به البلاد ويستطيب الحكم، وتُبنى على أساسه الدولة العميقة الضامنة لديمومته، على أنقاض بلد فاشل؟

بعد أن أزال السودانيون كابوس البشير، أصبحوا في مواجهة النذير الذي يتهدّد أحلامهم في الدولة المدنية العادلة، التي تكون حَكَماً نزيهاً بين الناس. هنا يتبدى الاختلاف الجوهري بين ما حدث في السودان، وما حدث في سواه، وهذا هو عينه الذي استحدث شكلاً جديداً من الثورات، غير مسبوق ولم يكن متوقعاً، وهو أن تضطر المؤسسة العسكرية إلى التعاطي مع فكرة أن يتولى الشارع، ممثلاً في “قوى الحرية والتغيير” تشكيل الحكومة المدنية الانتقالية، أو تسمية أعضائها، وتقديم الاقتراحات بشأن الهياكل الانتقالية.

فالطرفان، المجلس العسكري الذي جرى تنقيحه سريعا بإبعاد العناصر الفاقعة في ولائها للبشير، وقوى التغيير الشعبية، يدركان أن الدولة العميقة لا زالت قائمة، ويصعب على عناصرها تبديل ولاءاتهم وهم متحفزون للالتفاف على مطالب الشارع والحيلولة دون تحقيق الاستقرار بالشروط الملبّية لمطالب الشعب.

بناء على ذلك بدأت لعبة شدّ الحبل بين الشارع والمؤسسة العسكرية والأمنية. وهذه الأخيرة، وإن كانت سلّمت بأن عهد البشير قد انتهى بالإطاحة والفضيحة؛ لا يزال عناصر مجلسها العسكري الأعلى، يدركون حجم الخطر على مستقبل السودان، لذا تعمدوا الأخذ بغير أسلوب الاجتثاث في التعاطي مع مراكز الدولة العميقة. وقد تسبب ذلك ببعض التعثر في العلاقة بين الجيش والشارع، ورفع منسوب الشكوك لدى “قوى الحرية والتغيير” في نوايا القوات المسلحة حيال مسألة نقل السلطة إلى حكومة كفاءات مدنية مع سلطات واسعة لها. فالمرتجى يتعلق بتهيئة الأجواء لعملية انتقال سلسة، تلبّي مستلزمات نجاح الفترة الانتقالية وضمان عدم تعرضها لمفاجآت غير سارّة.

فقد انزعج الشارع عندما أعلن المجلس العسكري أنه تلقى أكثر من مئة رؤية ومبادرة من أكثر من مئة حزب، وأنه يدرس هذه المبادرات للخروج بخلاصة هذه الطروحات. هنا نما الشك لدى الشارع بوجود نوايا لتمييع السياق وخلط الأوراق، فعلّقت “قوى الحرية والتغيير اجتماعاتها مع المجلس العسكري”.

فما هي هذه الأحزاب الأكثر من مئة، ومعظمها مما يسميها السودانيون “أحزاب الفكّة” التي ليس لدى كلّ منها متر واحد داخل المجتمع، وهي مجرد عناوين لأرزقيين، استخدمها البشير للإيهام بأن لديه مؤيدون وتحالفات سياسية داخل المجتمع، وجُل هذه الأحزاب الميكروسكوبية تفرعت من عناوين انشقاقية، عن الحركة الإسلاموية في السودان، وارتضت أدوارها ضمن منظومات الدولة العميقة.

ربما يكون المجلس العسكري تعمّدَ الإشارة إلى أنه الحَكَم النزيه في هذه الفترة، وأنه لا يريد إقصاء أي مكون سياسي أو حزبي. لكن التدبير الصحيح هو التركيز على ممثلي الحراك. فطالما أنه تقبّل فكرة أن تبادر “قوى الحرية والتغيير” إلى تسمية أعضاء الحكومة الانتقالية، فالأجدر أولا أن يتقبّل المجلس العسكري فكرة استثناء الأحزاب الموالية للبشير من أي مشاورات تهدف إلى اجتياز المرحلة الكارثية التي كانت ضالعة في صناعتها. ثم إن المجلس العسكري لم يكن مضطرا إلى عقد كل تلك اللقاءات مع عناوين ليست معنية بالتغيير أصلاً وترجو إحباطه.

من المفارقات، أن الرئيس السوداني المخلوع، عندما استشعر خطر الحراك الشعبي في بدايته، أدى زيارتين على خطين متناقضين، فصلت بينهما أسابيع قليلة. ويمكن أن تُقرأ الأولى في ضوء فضيحة ضبط الأموال الضخمة في منزله ومنازل المقربين منه. ففي منتصف شهر ديسمبر الماضي، عندما اشتد الحراك المطالب بإسقاطه، لجأ إلى بشار الأسد، الناجي الوحيد حتى الآن من انتفاضة شعبه، فتوجه إلى دمشق بطائرة روسية، في زيارة مفاجئة إلى سوريا، واستقبله بشار الأسد مبتهجا.

لم يكن المضيّف يعرف أن زائره الذي يدس الأموال الطائلة في منزله، لخوفه كمطلوب للجنائية الدولية من إيداعها في مصارف أجنبية؛ كان يفتّش لنفسه عن ملجأ آمن مع المال المنهوب. فلو فعلها وهرب بالمال وامتطى في دمشق خطاب الممانعة والثورية، لما كان بمقدور أحد أن يقنع السذّج بأن البشير أبعد ما يكون عن الشرف القومي. وعندما خبا الحراك لفترة، طار في يناير 2019 أي بعد شهر واحد إلى قطر، واستقبله أميرها بحفاوة، وكان غرضه ترميم العلاقة مع أتباع الترابي في السودان، والحصول على دعم إخواني لكي يضمن النجاة.

الآن، بدا أن كل محاولات قطر والإخوان ركوب موجة الانتفاضة السودانية باءت بالفشل الذريع، لأن السودانيين يدركون مخاطر لصوص الثورات، ومتحسّسون من تسلل الإسلاموية السياسية التي مكنت للبشير طوال ثلاثين عاما، ومحاولتها ملء الفراغ.

ففي السودان أصبح اللاعب الرئيسي هو شعبُ السودان، الذي جرّب الإسلامويين، ولم تعد تنطلي عليه خطاباتهم المخادعة، ولا منهجيتهم التي تفتح أبواب الصراعات الاجتماعية. فهم حتى الآن، وإن اندسّت بعض رموز الإسلامويين في الحراك، ويحاولون التمثل بأهداف الثورة، لا يزالون ممنوعين من التوغل وممنوعين من التأثير. أما جوهر المأزق بعد اجتثاث البشير، فيكمن في صعوبة تفكيك الدولة العميقة التي بناها البشير بمنهجية إسلاموية، أنتجت فقرا واستبدادا وفسادا فادحا!

العرب اللندتية

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..