مقالات وآراء

السودان بين الشقاق والوفاق (2)

يا بلاداً حوت مآثرنا كالفراديس فيضها منن
قد جرى النيل في أباطحها يكفل العيش وهي تحتضن
هتف الشيب والشــباب معاً وبتقديسه القمـين عنوا
نحن بالروح للســـودان فداً فلتــدم أنت أيها الوطن
“محمد عثمان عبد الرحيم”
لا أحسب أنني بحاجة لتكرار القول بأن السودان وطن رائع، ليس بجغرافيته وتنوع موارده فحسب، بل بناسه وعبق تاريخه وتراثه الثر، وصلاته وتواصل أهله، وتعدد ثقافاته وأعراقه وتلاقحها وامتزاجها حتى أخرجت هذا الإنسان الخلاسي أسمر اللون مرفوع الجبهة أو كما قال شاعر السودان صلاح أحمد إبراهيم:
أعرفهم: الضامرين كالسياط، الناشفين من شقا
اللازمين حدهم، الوعرين مرتقى
أعرفهم كأهل بدر شدة، ونجدة، وطلعة، وألقا
أعرفهم حين يغضبون، وحين يزأرون كدوي صخرة
أهل السودان جاءوا من أصلاب رجال رضعوا المروءة من أثداء أمهاتهم وورثوا الرجولة والشهامة من أجداد بهم يزهو جبين، خلق يسمو وعهد ولا يلين. وأذكر هنا، على سبيل المثال لا الحصر، أستاذنا الراحل وصديقنا طيب الذكر البروفسور سيف الإسلام سعد عمر، رحمه الله، فهو خير من يضرب به المثل على اختلاط الأنساب في السودان، قبل أن تطل علينا القبلية والجهوية برأسها، وعندما كان السودان يدار مركزياً وتحمل القطارات الناس إلى مقار أعمالهم من حلفا إلى نملي ومن محمد قول إلى رهيد البردي، فتتآخى العائلات وتتزاوج، ومن هنا كان سيف الإسلام حفيداً لإثنين من عظماء السودان هما المك نمر من جهة الأب، وعلى دينار من ناحية الأم، فلله دره، قد جسد التواصل بين أهل السودان عبر الخدمة المدنية والعسكرية، فهل يا ترى يعود ذا الزمن؟
وعلى الرغم من كل هذا التلاقي والروعة والرونق إلا أن السودان، كما ذكرت، ظل عرضة للشقاق حول الكراسي والسلطة، للأسف الشديد. وقد أدى ذلك إلى الاحتراب العبثي؛ فهدمت كنائس ومساجد يذكر فيها اسم الله، وأحرقت القرى وترملت النساء في ريعان الشباب وشردت الجماعات والأفراد، وفقدنا أجيالاً كاملة، بعدما تركوا صفوف الدراسة، وجندتهم الأطراف المتصارعة؛ ليكونوا وقوداً للحرب اللعينة التي أوقفت عجلة التنمية وحالت دون عمارة الأرض، فيا لهفي على فلذات أكبادنا ويا حسرتاه على مستقبلهم، فقد ضاع! بالله عليكم يا حضرات الساسة وقادة الحركات المسلحة هل تستحق بلادنا وشعبنا الأبي أن يفعل بهما كل ذلك؟ كلا والله.
أما وقد أوشك المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير على التوصل إلى اتفاق، ومهما اختلفت وجهات النظر وتباينت حول هذه الخطوة، إلا أنها تعد بارقة أمل لخروج السودان من النفق المظلم، كما يقول الدكتور منصور خالد. ولذلك فإن من المطلوب فوراً التوقف عن المشاكسة والتصعيد، والمماحكة؛ إذ لم يعد هنالك مبرر لذلك، والامتناع عن إرسال الإشارات السالبة التي قد تؤثر على مجرى الأحداث وتغير المزاج العام الذي بات الآن متهيئاً لمرحلة جديدة من التصالح مع الذات وقبول الآخر، دون إقصاء لجماعة أو كيان، مهما كانت الأسباب والدواعي. ولكي يتحول هذا التوجه لواقع ملموس، علينا أن ننظر للمستقبل أكثر من الماضي، ونعلي من شأن ما يجمع بيننا أكثر مما يفرقنا؛ حتى نشتق طريقاً جديداً يفضي إلى مخرج آمن يحقق لنا الاستقرار والأمن والطمأنينة في ربوع البلاد كافة.
هذه المرحلة ليست مناسبة للاستقطاب وتصفية الحسابات، وإنما هي فترة انتقالية القصد منها تهيئة الوضع، والإعداد لمرحلة التحول المرتقب؛ حتى نصل إلى صناديق الاقتراع، ومن ثم يستطيع الشعب السوداني اختيار من يراه مناسباً لتسيير دفة الحكم. وإذا حاولت أي جهة أو كيان سياسي استغلال هذه الفترة، طالت أو قصرت، لتمرير أجندة حزبية أو جهوية أو أيدلوجية ضيقة؛ فسيعود السودان، بلا أدنى شك، إلى المربع الأول، ونعود لحالة الشقاق والاحتراب مرة أخرى وعندئذ سينطبق علينا قول زهير بن أبي سلمى:
وَمَا الحَـرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُـمُ وَمَا هُـوَ عَنْهَا بِالحَـدِيثِ المُرَجَّـمِ
مَتَـى تَبْعَـثُوهَا، تَبْعَـثُوهَا ذَمِيْمَـةً وَتَضْـرَ إِذَا ضَرَّيْتُمُـوهَا فَتَضْـرَمِ
فَتَعْـرُكُكُمْ عَرْكَ الرَّحَى بِثِفَالِهَـا وَتَلْقَـحْ كِشَـافاً ثُمَّ تُنْتَجْ فَتُتْئِـمِ
فَتُنْتِـجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْأَمَ كُلُّهُـمْ كَأَحْمَـرِ عَادٍ ثُمَّ تُرْضِـعْ فَتَفْطِـمِ
وعلى كل حال، يجب ألا يفهم كلامي هذا على أنه تشاؤم أو تخذيل، بل هو في واقع الأمر صيحة استغاثة صريحة من مواطن عاش طفولته وشبابه الباكر، على تراب هذا الوطن العزيز، منذ أن رأى النور قبيل الاستقلال أو بعده بقليل، ولكنه لم ينعم باستقرار بين سربه وجماعته لسنين عدداً، بسبب ما اقترفته أيادي الساسة والعسكر من تقصير شنيع في حق الوطن؛ من أجل تحقيق طموحات غير محسوبة العواقب، أدت إلى تعطيل الحياة الدستورية واوقفت تجربة التداول السلمي للسلطة، وأورثت هذا البلد العملاق التخلف والفرقة والشتات حتى وصل السودانيون إلى أقصى أطراف الكرة الأرضية، بحثاً عن العيش الكريم، وهرباً من سوء الأوضاع داخل مرتع صباهم، فهلا أتعظنا؟ هذه الفترة يجب أن تخصص للتوصل إلى مشروع وطني جامع يلتف حوله العقلاء وأصحاب المعرفة والخبرة؛ حتى يتحول إلى برنامج تنموي شامل.

محمد التجاني عمر قش

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..