مقالات وآراء

دموع الدقير …. ودموع ( لي كوان يو)

في البدء اترحم على ارواح الشهداء الشباب الذين قدموا ارواحهم رخيصة للوطن ونسال الله العلي القدير ان يتغمدهم بالرحمة والمغفرة في اعلى عليين مع الانبياء والصديقين، ويربط على قلوب امهاتهم واباءهم ويلزمهم حسن الصبر وجميل العزاء.
في هذه الايام المباركات ونحن قد قلبنا صفحة قبيحة من تاريخنا نتهيأ لوطن جديد وعهد جديد ونحمد الله ان عشنا حتى رأينا القيد ينكسر والمارد يصحو وراينا مدرس الفيزياء الرصين وهو يوقع نيابة عن الشعب الصابر، ورأينا قادة شباب يلبسون ثيابا انيقة وسيدات سودانيات في كامل البهاء وهن يلبسن الزي القومي الجميل ليسوا ولسن من (التنظيم اياه) ونستمع اليهم ونصدقهم حينما يتحدثون في القنوات التلفزيونية ونشعر انهم منا ونحن منهم وانه قد صار لنا وجيع ولنا احلام ولنا وطن . . . ونحبه جدا !
عندما بكى الباشمهندس عمر الدقير بكت كل الامة السودانية . . . تلك كانت لحظة فاصلة ومفاجئة ومدهشة حقا بكل المقاييس …. ان يقف ليعلن الوثيقة الدستورية ويبدا شعرا:
اقف اليوم براس حاسر
وبقية شيء في نفسي
ونقاء وجيبي
مولاي الشعب الاسمر خذني
فانا المعشوق العاشق

تهيبنا قليلا . . . فهذا كلام كبير وقد فهمنا المعنى ووصلتنا الرسالة والاحلام الكبيرة والموقف الثابت و (يا غرق يا جيت حازمها) وشالت عيوننا الدموع و لكن عندما نطق وهو يغالب دموعه : ( لاطفال يشتركون مع القطط في حاويات القمامة … للجوعى للمساكين من اهل بلادي) هنا …. الاَن الاَن تماما في هذه اللحظة كموجة تسونامي ضخمة اجتاحت عواطفنا وقلوبنا الحزينة كاليتامى لا ام لهم ولا اب مشتتين في اركان الكرة الارضية لم يعد هناك مناص من البكاء وانهمرت الدموع وتفجر حزن عميق متحجر في دواخلنا. انه حزن طال امده ولم نكن نعرف له نهاية او لم نكن نتخيل ان له نهاية، لقد وضع يده على جرحنا المشترك، هؤلاء الاطفال الذين ياكلون من حاويات القمامة نعرفهم جيداً وهولاء الجوعى هناك الكثير منهم وكلنا مساكين !
في سنة 1965 قررت ماليزيا التخلي عن مستعمرة سنغافورة الفقيرة وبذلك اصبحت دولة مستقلة. ظهر رئيس الوزراء السنغافوري انذاك (لي كوان يو) وهو يبكي ! فماذا يفعل ببلاد فقيرة تغمرها المستنقعات و يملؤها البعوض مساحتها لا تتجاوز720 كيلومترا مربعا ولا يجمع بين سكانها أية لغة أو قومية أو تاريخ مشترك، كان السكان (لحم راس) من الملاويين والصينين والهنود وتبعا لذلك هناك ايضا (لحم راس) من الثقافات واللغات والأديان ، وكانت مصادر الدخل شحيحة جدا أو منعدمة ولا يوجد فيها نفط ولا ذهب. يقول لي كوان أو الوزير المعلم أو المعلم الأعلى كما يلقبه الشعب السنغافوري عن هذه اللحظة ( لحظة الكرب) ويقول عن هذه الظروف الصعبة: (سنغافورة أمة لم يكن يفترض أن تولد(!

ولكن بحلول التسعينات أصبحت سنغافورة، ثالث أكبر مركز لتكرير االنفط في العالم بعد نيويورك و لندن و تصدرت العالم في إنتاج البروكيماويات و أصبح ميناء سنغافورة من أكثر موانئ العالم ازدحاما، وفي تلك الأثناء كان عموم الشعب متعلما ونظيفا وانيقا و يتحدث اللغة الإنجليزية التي أصبحت اللغة الرسمية في البلاد. الاَن لا يوجد فقير في سنغافورة وويمتلك 85% من الشعب منازله الخاصة ! وهو احد اكثر الشعوب انتاجاً و رفاهيةَ وسعادةَ !
بالطبع هناك فارق شاسع جدا بين سنغافورة وبين السودان من كل الوجوه بكل تاكيد فالسودان دولة كبيرة غنية بالموارد الطبيعية والموارد البشرية ولكن اذا استطاعت سنغافورة التي وصفت بانها مستنقع منعدم الامكانيات على كل الصعد ان تبني نفسها وتنهض من العدم، عار علينا شعب السودان ان نفشل.
في هذه اللحظة وبلادنا تمر بهذا المنعطف والتحول الكبير ونحن لا زلنا نفسيا نقف في منطقة رمادية ….. لم نفرح تماما او لم نطلق مشاعر الفرح حتى الان لان الحزن والبؤس استمر معنا وعاش معنا سنينا طويلة …. الشباب الذين ارتقوا منذ بداية الثورة في ديسمبر الماضي ….. والذين ارتقوا قبلهم في 2013 وقبلهم وقبلهم ….. ومن عذبوا وقتلوا وسجنوا ومن اختفوا عن ظهر الارض ….. النساء اللائي جلدن وعذبن بشكل يتنافى مع الانسانية واحترام المراة تلك المخلوق الكادح العظيم …. الحكومات التي مرت علينا منذ الاستقلال والثلاثين عاما البغيضة التي مرت علينا ككابوس ثقيل وطويل …. اولئك الاطفال الذين ذكرهم الباشمهندس والجوعى والمساكين من اهل بلادي هم من يمنعنا من الفرح الكامل.
دعونا نتمنى ان تكون دموع الباشمهندس الدقير علامة فارقة في تاريخنا المعاصر ولينا فال سنغافورة وابشروا بالخير.

أ. شذى عبد الحفيظ محمد رحمة

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..