اقتصاد السودان (ما بين الردهة الجهنمية والمعضلة التنموية)

دكتور الوليد آدم مادبو
“لا قيمة لإرادة السيطرة مع دون وجود وسائل لتحقيقها مادياً”
(برهان غليون)
التقيت كهلاً يعمل حمّالاً في مطار الخرطوم فاستعنت به لحمل أغراضي وأنا في طريقي لمغادر البلاد بعد زيارتي للخرطوم فور انتصار الثورة المجيدة. لم نكد نشرع في التوجه نحو المدخل حتى سألني عن إسمي، أراد أن يستوثق عن هويتي فقد التبس عليه الشبه. قال لي انت محسي، قلت له عندي لحَمَاية في المحس. قال: الم تكن متحدثاً بالأمس في تلفزيون، قلت له: نعم. قال لي منفعلاً: والله وأنا وعيالي وأمهم تسمّرنا بالأمس أمام التلفاز حتى انتهت الحلقة، واسترسل قائلاً “نحن نحن أهلك البسطاء ديل ما بنعرف كلامكم الكتير دا، لكن وصاتي ليكم إنتو أولادنا المتعلمين حاجتين: أولاً نحن أمانة في رقبتكم يوم القيامة، وتانياً كل شيء ساهل وبتحل، بس الله يخليكم باصروا لينا حلة الملاح، البصلة والزيت. الرجل جائ من الأخر، وقد تكلم بإخلاص أبدى فيه عن السهل الممتنع.
لقد نجحت الثورة التونسية سياسياً، لكنها فشلت أو كادت أن تفشل اقتصادياً ممّا تسبب في تعسرها وكاد يطفئ جذوتها لولا وعي النخب السياسية التونسية، كفاءة الطاقم الإداري، الانسجام الاجتماعي، توفر طبقة وسطى كفيلة – وإن كانت ضَجِرة – بالدفاع عن الحقوق الديمقراطية، وتضافر الجهود الإقليمية والدولية للحفاظ على مستوى أدنى من الاستقرار الأمني والعسكري. بالنظر إلى هذه العوامل فإن ثورة البنفسج في السودان تفتقر إلى وجود نخبة سياسية ناضجة، واعية ومتجردة نسبياً، يتسم كادر الدولة الإداري بالبؤس المهني والفقر الرؤيوي، توجد هناك نتوءات أثنية وقبلية عديدة، تتصف الساحة العامة بالتشظي نتيجة الاستقطاب الذي مارسه النظام الفاشي (فالشمولية غير الاستبداد)، تنعدم في السودان الطبقة الوسطى القادرة على الاسهام بفاعلية في المرحلة القادمة، لأن مجرد الانفعال العاطفي لا يكفي، يوجد حول السودان جيران السوء والأخطر عدم وجود رغبة أو همة من قبل المجتمع الدولي للمساعدة بصورة فعلية في انتشال السودان من هذه الردهة الجهنمية، إنما مجرد وعود لم تترجم بعد إلى برنامج عملي يستهدف الإصلاح الإداري وتتوفر فيه شروط الاستدامة بسماتها الآتية:
- الاستدامة تقتضي بناء منظومة إدارية فاعلة وذكية.
- مواءمة الخطة الوطنية للتحديث مع رؤية السودان الوطنية لعام 2050.
- تطبيق أنظمة لإدارة الموارد البشرية خاصة، كشرط أساسي لتحقيق الاستدامة.
- تبيان المراحل المختلفة للتنمية المؤسسية ومدى تأثرها بالموجهات والعوامل التمكنية.
- تحقيق الإحكام من خلال التوفيق بين الاستقلالية الإدارية، والاستجابة الفورية لحاجيات المواطنين.
إن قدرة السياسيين أو التنفيذيين على تقديم الدعم الأساسي اللازم يعتمد على مدى نجاحهم في استقطاب الكفاءات المهنية القادرة على التنفيذ وتلكم التخطيطية القادرة على متابعة المشاريع والتأكد من مدى اتساق نتائجها من الأهداف الاستراتيجية العليا. لا بد من توفر “الكتلة الحرجة” من التنفيذيين القادرين على تحويل مسار الدولة نحو الاتجاه السليم للإصلاح. الديمقراطية وحدها لا تكتفي، بل قد تزيد الأمور سوءاً إذا لم تُستحدث الضوابط القانونية اللازمة للحد من تغول الانتهازيين على العمل ولم تَحد من قدرتهم على التأثير على الناخبين مستخدمين ذات الأموال التي جنوها في حقبة الاستبداد.
يتحدث الكل عن سياسة التمكين التي مارسها نظام الإنقاذ كأحد أهم الأسباب في تشريد الكفاءات، بيد أن هناك عامل بنيوية تسببت في هجرة العقول، منها ما هو اقتصادي محلي، متمثل في بؤس الاحوال المعيشية، ومنها ما هو اقتصادي عالمي متمثل في توفر فرص باهرة للمتميزين من أبناء العالم الثالث في الغرب الأوروبي. كلما تمكن الاستبداد من الفضاء العمومي كلما تضاءلت قيمة العلماء في بلدانهم، ومع ما يجدونه من تقدير في البلدان الأخرى. فلا ينتابهم حينها حرج في الهجرة. الآن ومع توفر المناخ الديمقراطي واتساع هامش الحرية، فلا بد من تعاون الحكومة القادمة في السودان مع الدول الغربية وتصميمهما لبرامج تدعمه مالياً وفنياً تلك الدول لإستقطاب العقول التي من دونها لن تحدث أي نهضة. يجب أن ندع المكابرة جانباً وتعترف بأنه لا يوجد إلا فئة قليلة في السودان اليوم يمكن ان يستعان بها في النهضة المنوط بالنظام القادم تحقيقها.
إن نهضة اليابان وسنغافورا وماليزيا، وبعض الدول الافريقية، كانت بالاستفادة من العقول المهاجرة. فمناخات الاستبداد تقتل الابداع، والابتكار، وتقوّض من مقدرة المرء على التأمل. هذا إذا استثنينا الافقار المادي وإنعدام الوسائل البحثية وسبل التطور الفني والمهني، كما الإفقار المعنوي الذي تمثل في عدم تقدير السياسيين لمجهودات المتميزين، بل الامعان في ازدرائهم وتوقير الجهلة، الفاسدين والمتملقين. وإذ إن الثورة في توفر الفرصة للإصلاح، فلابد من اغتنامها بتوفر الكادر السديد المقتدر وتبنى الخطط التنموية. ولا تكون الخطةُ سديدةً إلا إذا تم التشاور حولها، وكثفت الجهود لتجويدها مع قادة النقابات، أصحاب المصالح، رجال الأعمال، ….. إلخ. العلمية والفلسفية لنقدها، ورشدت الموارد كافة لانجاحها.
بما إننا لا نعمل في مجال إفتراضي فيجب أن نصطحب معنا معطيات الواقع السوداني، والذي رغم خصوصيته يُشبه بقية دول العالم الآخر في خصائص كثيرة. فنحن حسب تعبير بول كوليير نتنمى إلى البليون المنفصل قسراً وطوعاً عن قطار البشرية، والمتنكب حد النكوص عن ركب الإنسانية. قد يختلف الكثيرون عن مسببات هذا الانفصال، لكنني سأكتفي بتوصيف الحالة كي اتمكن من البحث عن حيل لتدارك الموقف ومساعدة انفسنا كي تستطيع دول العالم الأول مساعدتنا. لم يعد هنالك جدوى من تجريم “الرجل الأبيض”، الأوروبي خاصة، إنما هنالك فائدة قصوى من الدخول معه في تفاوض لجلب المصلحة ودرأ المفسدة بلغة الفقهاء الذين تعاملوا مع الأمور بكلية واقعية، رغم أن الكلمة او المصطلح بات يحيل السامع إلى أناس جُبِلوا على التفكير بصورة غبية، أو غير منطقية.
إذا ما قررننا البدء بملف السلام، فيجب الاقرار بأنه لا توجد دولة افريقية لها موارد عسكرية أو دافعية سياسية يمكن أن تؤهلها لإستنقاذ الدولة السودانية من الانهيار. يحتاج السودان حسب رأي كوليير في كتابه “بليون القاع” إلى دعم الدول الأوروبية التي تمتلك القوة والطموح اللازمين، مع توفر الرغبة في مكافحة الإرهاب، الجريمة المنظمة والأمراض التي يمكن أن تصل إليهم عبر قوارب الهاربين مع الجحيم. لقد وضح جلياً أن الشراكة الاقتصادية والإنسانية، وليس فقط التدابير الوقائية هي التي يمكن أن تخلق سلاماً ونمواً مستداماً يعود الخير على البشرية كافة. (أنا أعول على الأوروبيين في حالة السودان أكثر من الأمريكيين، لأهم – على الأقل حاليا – ليس لديهم ارتباط مع الامبريالية الإسلامية). إن السودان يقف على شفا جرف هار، فلا بد من تضافر الجهود العالمية لاستنقاذه من البؤس والفقر باستحداث برامج تدعم جهود السلام، تستهدف الفقر والكساد الاقتصادي، وتعمل على تنوير جهوده للإصلاح الإداري. هذه هي الأولويات لمن لم يتعرف عليها حتى الأن.
إذ جاز هذا التوصيف الأولي للوضع السوداني، فلا عجب إنه إذن يتأرجح بين الردهة الجهنمية المتسعة بحجم الفقر والكساد الاقتصادي، لا ننسى الاعتماد في الصادرات على الموارد الأولية، وبين المعضلة التنموية التي رغماً عن الأسباب التاريخية لا يمكن أن تنفي عن نخبنا سوء الإدارة الذي تسبب في صراع تزيد وتيرته وتيرته وتنخفض حول الموارد الطبيعية. حتى إذا ما توافرت الظروف من مثل التدخل الخارجي أو زادت حِدة التوتر في التعاطي على مستوى الشأن الداخلي، وتكاثرت الدواعي، نشبت الحرب الأهلية التي لا يمكن إيقافها لمجرد المناشدات الاخلاقية، إنما اتخاذ الخطوات العلمية التي يمكن أن تخاطب قضايا التهميش، والتي تبدأ بالإقرار بالمشكلة، التفكر في كيفية جبر الضرر المعنوي والمادي، واستحداث نظماً خلاقة لمعالجة جذور الازمة الواقعة.
تتلخص مشكلة الحكم في السودان في سبل الحَكَامة السالبة والسياسات الاقتصادية العقيمة، فقد اعتمدت النظم المركزية كافة على افتعال الحروب لإلهاء جماهير الريف عن حقها، سيما التكسب من محاصيلها وثرواتها، واستخدام أبناءها جُنداً في حروب لا تنتهي. قبل أن تكون قد استهلكت ميزانية الدولة وأعجزتها سبل الإستنزاف عن تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين الذين لن يستطيعوا أن يقوموا بدورهم في حماية الديمقراطية إلا إذا تحسن مدخولهم مشفوعاً بزيادة النمو وارتفاع الناتج القومي الإجمالي.
إن الخلاف بين مكونات الشعب السوداني عامة وجماعة الحرية والتغيير خاصة يجب أن لا يكون خلافاً في الأولويات (الحكامة أم الاقتصاد)، إنما تفكراً في المنهجيات المناسبة التي يلزم إتباعها لإخراج البلاد من وعثتها. سيما أن الاستقرار السياسي المطلوب لإفساح مجالاً للتفكير بصورة خلاقة في شأن النمو والدخل القومي لا يمكن أن يتم إلا إذا حلت أزمة الحكم. من ناحية أخرى فإن حل أزمة الحكم لا يضمن تحقق النمو وزيادة الدخل القومي إلا إذا اتخذت تدابير إدارية وتوفر دعم فني ومالي قد تعين السودانيين على إدارة موارد بلادهم بطريقة عدلية تحقق الرضا للمواطنين وتجعلهم حراساً لحرية كانت بغيتهم منها اتساع الافق الاجتماعي والاقتصادي، وليس فقط السياسي. بمعنى آخر تحقق الدمقراطية الاجتماعية والاقتصادية كمدخل لاستدامة الديمقراطية السياسية.
ختاماً، إنه لمن السهل جداً لأي جهة مغرضة في ظل هذا المناخ وما تسوده من عاطفة مُسْتَعِرة أن تُجيش مشاعر المواطنين ضد الحكومة القادمة، وقد شهدنا ما فعله إعلام الجبهة الإسلامية على بؤسه في ذاك الحين من تحريض ضد الديمقراطية، فلمّا أن وئدت التجربة أخرسوا الألسنة الأخرى على صدقيتها ووطنيتها. وها هم دعاة الفتنة قد بدأوا يستغلون منابر الجمعة لتفريق المواطنين إلى فسطاطي الجنة والنار وقد جعلوا النار من حظ المتبعين لرايات الديمقراطية والمدنية. إلى حين تحسن الظروف السياسية والاقتصادية، يجب على المواطنين التبصر، توخي الحذر وتقوية عزائمهم للإسهام في التنمية التي بات روادها يعولون على الممارسة القاعدية؛ تشديد الرقابة على التنفيذيين وتحريض السياسيين على ممارسة النقد بمستوى عالي من المسؤولية، كما يجب ان تستصدر الدولة قوانين تحد من إمكانية الفاشية الإسلامية والفلول الإنقاذية على وأد التجربة الديمقراطية وللمرة الثالثة.
مقال جيد بس ابعد من العنصرية ييييييا دكتتتتتتتور
مقال يبدا في الماضي المعروف للجميع ثم المستقبل ثم الماضي مره اخري
بعض التناقضات ولَم يكن مادبو متفائلا أبدا ويخون الجميع تاره ويرجع
يخون المستقبل الذي لم يبدا مع مركب نقص في العنصريه
لم تكن مناضلا بما فيه الكفاية في عهد البشكير وتعتمد علي جدك اكثر
من نفسك التي لديها مركب نقص ما
انه مثل الصادق المهدي ابوكلام عاوز وزاره او رئيس وزراء
لم تكون مهني منصف أبدا في كل مقالاتك
يا جماعة لماذا هذا التحامل من بغض المعلقين دائماً على د. الوليد مادبو وأين هذه العنصرية التي يشيرون إليها إلا إذا كانت شيئاً لا نعرفه! الرجل شخص مشكلة إحداث التغيير المنشود في كل المجالات، في الوعي لدى الكادر البشري المنوط به إحداث التغيير لاسيما الكادر الوظيفي والطبقة الوسطى المستنيرة بأكملها في الدولة والمجتمع المتفهم لضرورة التغيير والتوير وفي ذات الوقت يحذر الكاتب من معوقات الثورة المضادة واستغلالها للكوادر الانتهازية في الدولة في التخريب وذلك بسن القوانين والاجراءات الكفيلة بمنع استغلال القوانين وأنا أرى أن هذا لا يمكن تحقيقه إلا باستبعاد كافة الكادر الوظيفي الذي وظفته دولة الفساد، تطهير عديل كده! فهؤلاء تربوا على الدمسة والكذب وعم الأمانة والشفافية وهي القيم التي يفترض أن يتم التغيير من خلالها، نعم التطهير من التمكين وكنسه كنساً رغم ما قد يبدو ذلك ظاهرياً مخالفاً للقانون ومبادئ العدالة والمساواة التي يقوم عليها وفي حقيقته أن هذا هو عين العدل والمساواة لمن مكنوا لأنفسهم وميزوها بغير حق عن غيرهم والذين كانوا أجدر بوظائف الدولة منهم . وهذا ربما قصده الدكتور من ضرورة ايجاد طبقة وسطى مستنيرة تتفهم وتؤمن بضرورة التغيير وبوسائل إجداثه ومنها الكادر البشري بعكس مواصفات هذا الذي خلفه نظام الفساد العنصري مع كل الأوصاف السيئة الأخرى التي يعج بها عا تلك التي هي مكارم الأخلاق الاسلامية التي يدعونه زيفاً ونفاقاً على الناس.
خليك إيجابي ومتفائل يا دكتور والكل فرحان لما تم في هذه المرحله
انا شفت من أسره مادبو من يشبه النوبه ومن يشبه الفور ومن يشبه الرزيقي
العرق دساس يا دكتور ومافي داعي العنصريه وهذه عقده السودانيين
قل خيرا وارمي سهمك لمستقبل البلد المتهالك
تونس نهضت بعد الثوره لانها لفظت الكيزان وهذا هو داء السودان
LIKE
اين العنصرية في هذا المقال؟؟؟؟!!!!!!!!!!!!
أتفق معك تماما دكتور مادبو في أن السودان في حوجة لكوادر إدارية و علمية لها تجارب و ممارسات في دول متقدمة لنقل حصالتهم لوطنهم السودان بكل نظمها و قوانينها و شفافيتها, هذا اذا أردنا للسودان طفرة حقيقية الى الامام.
بغض النظر عن التحديات والتقاطعات النظرة يجب أن تكون أكثر تفاؤلا واشراقا ، فالسودان زاخر بالموارد والعقول المستنيرة في شتى المجالات بالداخل والخارج ولن يبخلون على وطنهم المسلوب المخطتف بالدعم المادي والمعنوي، الثورة السودانية قبل كل شيء ثورة وعي ومفاهيم ودروس مستفادة امتدت إلى الخارج ، فلنبتعد عن التنظير ونظريات فلاسفة الغرب وإن كانت مستندة إلى قراءات ورؤى واقعية فهي ليست منزلة من لدن حكيم عليم .
# سودان جديد جميل جامع .
قلت ما داير بتك سكينة تشوف التلفزيون عشان ما تنخلع من أشكال القادة السياسيين الشياب أمثال أعمامك الصادق المهدى و محمد عثمان الميرغنى و إفتكر إنت قاصد الأول بس علما بأن أبوك أبا آدم من نفس الجيل ؛ معليش يا حبيب ما تنفعل كتير و فى النهاية المخلوع عمر البشير هو السبب فى مشاكلنا دى