مقالات سياسية

هل للمواطن العادي غير الحزبي رأي؟

أَيُّها السادة الكرام لقد أنجز شعب السودان ثورة عظيمة بكل المقاييس، لا تقل شأناً عن أعظم الثورات في تاريخ العالم.. وقد قدَّم في سبيلها أغلى ما يملك من فلذات أكباده وزهرة شبابه.. والقاصي والداني يعلم أنها كانت ثورة منظمة، ذات قيادة سياسية راشدة.. وأنها لم تكن فوضى، ولم تكن مجرد احتجاجات جماهيرية تلقائية بلا ضابط ولا توجيه.. والبعيد قبل القريب يُؤكِّد على ذلك، ويشهد أنها كانت ثورة شعبية عارمة، بقيادة سياسية واعية، تحظى بإستجابة واسعة وسط جماهير الشعب السوداني، ومَرْضِي عنها على وجه العموم.
وليس غائب على أحد أنَّ هذه القيادة السياسية ممثلة في قوى إعلان الحرية والتغيير قد خاضت مفاوضات عسيرة مع المجلس العسكري أسفرت عن إتفاق وجد قبولاً كبيراً في الشارع السوداني.. حيث خرجت الآلاف تهتف فرحة مبتهجة مُرَحِّبَة بما قد تمَّ بغض النظر عن جوانب النقص فيه.. لأنَّ الكمال لله وحده.. ولأنَّ كل عمل بشري مهما كان حتماً يعتريه النُقْصَان وعُرْضَة للخطأ والزَّلل والنسيان.. لكنه إتفاق على العموم قد جاء مقبولاً لدى شرائح واسعة من الشعب.. ووجد ترحيباً إقليمياً ودولياً، ما عدا من الجبهة الثورية وغيرها من الحركات المسلحة.. رغم أنَّ الجبهة الثورية منضوية ضمن قوى إعلان الحرية والتغيير.. وهذا أمر مؤسف، ودليل على وجود خطأ تنسيقي وتنظيمي داخلي، يتوجَّب العمل على تلافيه، وعلى لَمِّ الشمل وتوحيد الرؤية والتَوَجُّه والقرار.. وبالأخص في هذا الظرف الحرج الذي تمر به بلادنا.
والمهم أننا الآن بعد التوقيع والمصادقة على هذا الإتفاق من جميع الأطرف وفي إحتفالية مشهودة على المستوى المحلي والإفريقي والعربي والدولي نكون قد دخلنا إلى معترك الجِدّ ومعمعة التنفيذ.. والإتفاق كما يعلم الجميع يتحدث عن ثلاث مستويات للحكم.. أولها مستوى المجلس السيادي حيث سيتم تمثيل قوى إعلان الحرية والتغيير فيه بعدد 5 أشخاص ونفس الشيء بالنسبة للمجلس العسكري.. ثم من خارج هذين الفريقين والطرفين سيتم تعيين شخصية واحدة توافقية بينهما يَرْتَضِيها طَرَفَيْ ميزان مجلس السيادة.
ومعنى ذلك حسب الإتفاق أنَّ هؤلاء الخمسة الذين هم من نصيب قوى إعلان الحرية والتغيير يجب أن يكونوا فعلاً وواقعاً من قوى إعلان الحرية والتغيير بمختلف أطيافهم وألوانهم بما فيهم الجبهة الثورية.. وبالتالي فإنَّ الحديث هنا وهنا بالذات عن كفاءات وطنية مهنية غير حزبية حديث خاطئ ومجانب للمنطق والصواب.. كما أنَّ استبعاد الجبهة الثورية من تشكيلة هؤلاء الخمسة عمل خاطئ لأنها جزء أصيل في قوى إعلان الحرية والتغيير.
فيا سادة يا كرام المجلس السيادي هو رأس رمح الحُكْم في البلاد وأعلى سلطة سياسية فيها، ولذا يجب أن يكون على رأس هرمها نفس القيادة السياسية التي قادت مسيرة الثورة وكابدت جميع مطباتها ومنعرجاتها من قوى إعلان الحرية والتغيير من السياسيين الأقحاح.. ولا تحدثونا هنا عن كفاءات وطنية مهنية غير حزبية.. لأنَّه ببساطة شديدة المجلس السيادي ليس مكانها ولا نافذتها الأنسب التي من خلالها يمكنها أنْ تخدم البلاد.. وقد سبق لي أن كتبت رأيي هنا في صحيفة الراكوبة وقلت أنَّ الأفضل لنا الآن في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ البلاد وضع نفس الأشخاص الذين خاضوا المفاوضات مع المجلس العسكري على رأس هرم السلطة في المجلس السيادي.. ولا شَكَّ أنَّ هناك في الجبهة الثورية مَنْ جلس وخاض غمار تلك المفاوضات ولذا يجب الإتيان بأحدهم ضمن الخمسة.
لكن اذا جئنا للحديث عن الحكومة ووزرائها فهنا وهنا بالذات وهنا فقط يجب ويتوجب الحديث عن الكفاءات الوطنية المهنية غير الحزبية.. ولا يضير أحدهم طالما هو كذلك أن يكون ذا تَوَجُّه مُعَيَّن.. حيث ليس من المنطق حرمان البلاد من خبراته وإمكاناته العلمية والمهنية لأنه صاحب إنتماء وتَوَجُّه.. نعم هنا فقط يجب الحديث عن الكفاءات، لأنَّ الحكومة جهاز تنفيذي، والبلاد الآن في أمس الحاجة إلى مَنْ ينتشلها مِنْ حالها المُتردِّي.. ولا يوجد أفضل من الكفاءات الوطنية المهنية للقيام بهذه المهمة وهذا الواجب.. وفي مسألة الحكومة هناك إجماع على إستبعاد السياسيين في هذه المرحلة الإنتقالية.. لكن بالمثل ينبغي أن يكون هناك إجماع أيضاً على إستبعاد الكفاءات المهنية البحتة من مجلس السيادة.
أما بخصوص البرلمان والمجلس التشريعي فهذا لا خلاف عليه فيما أظن، في أنْ يكون جميعُ أعضائه من أهل السياسة والأحزاب.. فلماذا هنا لا أحد يتحدَّث عن وجوب الإتيان بكفاءات وطنية مهنية صِرْفَة؟.. ولماذا لا نرفع صوتنا وعقيرتنا بأننا نريد كفاءات غير حزبية في برلمان الثورة؟.. أكيد لأنَّ البرلمان يمثل المرتع الطبيعي والساحة الأساسية للساسة والأحزاب.. لكن اذا رفعنا شعارات وجوب ملء مقاعد المجلس السيادي بالكفاءات غير الحزبية.. ووجوب ملء مقاعد الحكومة والوزارات بالكفاءات غير الحزبية.. وأيضاً وجوب ملء مقاعد البرلمان بالكفاءات غير الحزبية.. وإذن اذا تمَّ إنزال هذا الخيال إلى عالم الواقع والمِثال فلا حاجة لنا بالساسة والسياسيين وصار وجودهم عبء لا فائدة من ورائه.. لكن كيف سيتم إستكمال تنفيذ إعلان الحرية والتغيير مبدأ الثورة الأساس الذي انطلقت لتحقيقه بمهنيين صِرْف غير سياسيين؟.. وفيما أعتقد وأظن لا أحد عاقل يقول بهذا.. ونحن لسنا بِدْعَاً ولا إستثناءاً في العالم فأعرق الديمقراطيات اليوم لم تستغن عن سياسييها ولم تستبدلهم بكفاءاتها المهنية لأنَّ هذا من المستحيلات.. وهل يظن أحد أنَّ الرئيس ترمب مثلاً من كفاءات أمريكا المهنية المرموقة؟.
أيها السادة الحِكْمَة هي وَضْع الشيء في موضعه.. ولذا يتوجب وضع كل شخص بإمكاناته ومؤهلاته في المكان الذي تستفيد منه البلد على أفضل وجه.. ولا نهدر طاقاتنا بخلط أوراقها وبعثرتها وتشتيتها هنا وهناك كيفما يكون.. يجب وضع الكفاءات المهنية في موضعها ووضع السياسيين في موضعهم وبلدنا تحتاج للجميع بشدة وأتمنى أن لا يصدق علينا قول المتنبئ:
ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام
وأخيراً ولأنَّ الإتفاق يتحدَّث عن أنَّ المكوِّن الأكبر للبرلمان من قوى إعلان الحرية والتغيير يجب أن يكون للجبهة الثورية نصيب ضمن حصة الأسد تلك.. وطالما أنَّ الجبهة الثورية شريك أصيل في قوى إعلان الحرية والتغيير يجب ترتيب البيت الداخلي وتمتين لحمته ووحدته وتماسكه بالإتفاق معها الآن في شقها السياسي على ممثلها في المجلس السيادي وكذلك على ممثليها في البرلمان والمجلس التشريعي.. وأما فيما يخص شقها العسكري فسيأتي الإتفاق فيما بعد في الفترة المخصصة لأعمال إحلال السلام في البلاد معها ومع غيرها من الفصائل والحركات المسلحة.. وأكيد وجود الشق السياسي المشارك في مستويات الحكم سيمهد الطريق أمام الإتفاق مع الشق العسكري للجبهة الثورية وهذا أمر يصب في صالح البلد وفي صالح السلام المنشود.

المُعَز عوض احمدانه
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..