(شماسة) أبكر ادم إسماعيل

…رينقو ده ود ذكي جداً، ولو دخل المدرسة ممكن يبقى حاجة، فعملنا حكاية الأستاذ البلاقيهو ويدخلو المدرسة..يعنى عشان الناس يعرفوا أنو الشماشة ديل زي بقية الناس. وممكن يكونوا أحسن!”
رواية الطريق إلى المدن المستحيلة لأبكر آدم إسماعيل واحدة من الحكايات الممتعة، يتماهى فيها الخيال بالحقيقة، فيتلاشى الخط الفاصل بينهما، لأن الرواية -التي تصور حقبة من أزمان السودان المحفورة بعمق في أذهان الكثيرين، لم تتوسل اللغة لرسم ملامحها-كحال كثير من الروايات أو الكتابات التي تهتم بالتكثيف اللغوي فتأخذك صورها البلاغية المحسوسة بدلا عن صورها الإنسانية الملموسة-وأبكر آدم إسماعيل استطاع أن يأخذ القارئ بلغة الرواية البسيطة من دهاليز الخيال إلى مسرح الحقيقة الواقعة المليئة بالصور النابضة بالحياة.
جومو (الشماسي) الذي ينتمي إلى أولاد قرف، وهم المجموعة الأشد بؤسا وفقرا والأكثر تجانسا وذكاء وأبداعا، نجده في كل دهاليز الرواية بوصفه بطلا من أبطالها وواحدا من المبدعين الموهوبين الذين اكتشفهم الأستاذ الإنسان (أستاذ عساكر) ” يا ابني أي زول ممكن يبقى مدرس زينا كده، وممكن يبقى مهندس أو دكتور أو ضابط أو حتى رئيس جمهورية. لكن ما أي زول ممكن يبقى فنان”
هناك أربع (ألاعيب) تجسد الحكي في الطريق إلى المدن المستحيلة. اللعبة الصغيرة (سيرة أولاد قرف) وهم (الشماشة) وهي تحكي سيرة الطفولة والبراءة، فإضافة إلى أولاد قرف هناك أولاد كموش وجيمس بول وسرب العصافير. واللعبة الخطرة (سيرة المدينة) تحكي عن السياسة في حقبة مايو. أما اللعبة الكبيرة وهي (سيرة السراب) وهي مزيج من الحكايات وهي كذلك تمهد للنهايات الحتمية التي تأتي في لعبة الزمن (سيرة الحلم) فأبكر بعد أن يورط جومو الذي لم يكمل تعليمه بعد أن ترك المدرسة الشرقية المتوسطة وسافر إلى الخرطوم ومنها إلى كسلا للحاق بنازك المتورطة هي الأخرى في علاقة حب جارف جمع أولاد قرف الذي ينتمى إليه جومو أو (جو) كما يحلو لها أن تناديه، وسرب العصافير الذي انضمت إليه نازك أو (نون) كما يناديها هو الآخر أو يرمز إليها في كتاباته التي كانت تحفة أدبية نادرة بشهادة الأستاذ زين العابدين والد نازك ومدير المدرسة، وعضو الاتحاد الاشتراكي، وأستاذ اللغة العربية الرصين والمتعصب لقواعدها، وقواعد حياة يعيشها بصرامة كوالد يريد لأبنائه أن يحيوا حياة مديدة وجميلة بعيدا عن (البصل المتعفن)؟!
“إن الناس الذين يستحقون الحب أكثر بكثير مما نتصور. وإن الأيام لا بد أن تصير جميلة في نهاية المطاف” الحب هو قدر الإنسانية (الجميل)، ولكن نهاية المطاف قد تصير حزينة، فبالرغم من استمرار العلاقة التي نبتت كشجرة عميقة الجذور في قلبين طريين، مقاومة كل رياح الحياة العاتية، اصطدمت بعقبات كثيرة، فالأشجار لا تنمو بالسقيا والرعاية وحدها، فللظروف المحيطة أيضا دورها. فالحياة لا تأتي كما نشتهي، وليست كل الأمنيات ممكنة، لأن الأنظمة الاجتماعية لا تقدم حلولا مرضية. والنظام الاجتماعي الذي عاش فيه جومو يمنع اكتمال الحب، لأن التزاوج بين الأعراق والجهات أمر لا يخلو من تحريم.
في بعض الحكايات الجميلة يكون الموت هو أجمل النهايات، وهو حل مرضٍ، للعقدة العصية التي يحيكها الروائي، ويورط فيها أبطاله، ويورط فيها المجتمع، ويدخل الجميع في نزاع أخلاقي غير قابل للحل…فالمجتمع الذي يعيش في هدوء وسكون وجوار طيب، يمكنه أن يشعل حربا في قصة حب بريئة…
“إنشاالله البحر يطفح ويشيلك زي ما شال الجماعة..
– ما يشيلني؟ قالها جو بعدم اكتراث ثم أستدرك:
– إنت يا ديكور، الجماعة الشالهم البحر ديل منو؟
– إنت ما شفت الجريدة بتاعة الليلة؟؟
– لا ما شفتها!!
– ما الباخرة بتاعة مصر غرقت وكتلت ميتين وكم كده!”
ظل اسم المدينة التي بدأت فيها أحداث الرواية وانتهت، محجوبا… أطلق عليها اسم المدينة فقط، بمدرستها الشرقية والأميرية وكلية المعلمات و ميدان الحرية وحي “شرف الوطن”…
حاول الكاتب أبكر آدم إسماعيل وهو طبيب أسنان تخرج في جامعة الخرطوم، ونشط في العمل السياسي والثقافي، وتعرض في كتاباته لقضايا الهامش ومشكلات الثقافة السودانية، حاول في رواية الطريق إلى المدن المستحيلة أن ينأى بنفسه عن أحداث الرواية حتى لا يدع للنقاد (الحرفيين) مجالا أن يقحموه في تفاصيلها، فبعض النقاد كمدرسي المراحل الأولية (أسرى النظرية السلوكية) يسقطون كل شيء على الخلفية الاجتماعية. لذلك عمد إلى أسلوب الراوي الداخلي أو ضمير الغائب، وهناك تفاصيل كثيرة تأخذ بعضا من حقائق الواقع بصراعاته السياسية والاجتماعية والثقافية في تلك الحقبة والحقب التي تلتها وما تزال، مادة في بنائها المعماري، خاصة حوارات أهل اليسار في مجمع الطب وداخليات حسيب والرازي…أو صراع اليمين واليسار المتمثل في التيار الإسلامي والشيوعيين في مفاصل مؤسسات الدولة أو نظام مايو…والأنظمة الشمولية التالية…
“ما زالت مفاوضاتي جارية مع التاريخ، وأحاول أن أقنعه بأن بيوتنا أيضا كانت جميلة، وكذلك غناءنا ونساءنا..غدا نشرع نافذة أخرى للنهار”
عبد القادر دقاش