الصفوف والمعضلات الإقتصادية: هل “العدالة” في رفع الدعم؟

حل مشكلة الصفوف والمعاناة (وقود_ خبز_ سكر_ كهرباء) في التحرير الكامل (كما هو الحال في اللحوم والخضر والذرة وزيوت الطعام وخلافه، والتي هي متوفرة لكنها ترتفع وربما تنخفض حسب السوق)، يتم ذلك مع ضمان توفير دعم مالي جاد وعادل للفقراء والطلاب بطريقة كريمة وميسرة … إن الدعم الهائل لهذه السلع يرهق الميزانية ويذهب قدر كبير منه لمن لايحتاجونه أو لا يستحقونه أو يتم تهريبه للخارج… وان هذه المبالغ الهائلة يمكن أن تحدث تنمية حقيقية في ظل الحكومة الراشدة التي ننشدها، كما يقولون…
السياسة النقدية والتدابير التي من المتوقع أن تقوم بها الحكومة المرتقبة والبنك المركزي لتحقيق أهداف السياسة الاقتصادية المنتظرة قد تتفق أوتختلف مع ما يسهم به الكتاب والاقتصاديون خارج المنظومة الحكومية. يحمد للسيد رئيس الوزراء دعوته للسودانيين بالمساهمة لبناء مشروع نهضوي للبلد. مثل هذه المساهمات تتسق مع أهم شعارات الثورة (العدالة) والتي تتطلب _ في هذا السياق _ أن يذهب الدعم لمستحقيه (ريف، فقراء، مرضى) وليس لمن هم قادرون على المطالبة به والوقوف في صفوفه (حضر، مقتدرون) !!
—————————————————–
رفع الدعم قد يحل مشكلة الموازنة وتحول المبالغ للبناء والتعمير ودعم القطاعات المحتاجة:
رفع الدعم قد يحل مشكلة الموازنة فهل يحل مشاكلنا الاقتصادية؟ (د. عبد الرؤوف ربابعة). مثلاً جاء في مشروع الموازنة العامة المصرية: خفض دعم الكهرباء إلى 4 مليارات جنيه، مقابل نحو 16 مليار جنيه في موازنة السنة المالية 2018-2019م، بخفض قدره 12 مليار جنيه، وبنسبة خفض قدرها 75%، في حين انخفضت نسبة دعم الوقود لـ 40.5%. هذه إجراء قاسي في دولة مجاورة.
رفع الدعم قد يساهم في حل المشكلة الاقتصادية، هي آراء الخبراء وغيرهم من المجتهدين. الدلائل تشير لضرورة رفع الدعم والتحرير ليتمكن الاقتصاد من التعافي، يكون هذا التعافي ممكناً فقط مع ضبط وتفعيل لبقية الاجراءات الاصلاحية على النطاق الواسع. التحرير الكامل الموجود أصلاً في سلع مثل اللحوم والخضر والذرة والزيوت والملابس وخلافه، والتي ترتفع وربما تنخفض حسب السوق، يجعلها متوفرة وإن كانت مستعصية للبعض بطبيعة الحال! هذا الوضع موجود في السوق لهذه السلع وغيرها خارج الدعم لكن وسط احتجاج الناس بنغمة الغلاء وهو غلاء يصل لــ 300% وبمعدلات تضخم فوق الـ 50% في العام. يواجه هذا الغلاء بإحتجاجات متفاوتة وتذمر لكن يتوقع ان يكون الاحتجاج كبيراً إن طال سلع الخبز والوقود والسكر! السؤال المشروع لماذا لا يتطور الإحتجاج وترقى الرقابة على كل السلع مثل اللحوم والاسمنت بدرجة تصحح مسار اسعارها؟
“النقد الذاتي أو التفكير النقدي، يزكّى التفكير من شوائبه، فيه تنجلي الرؤية، ويزيد الوعي ممّا يؤدّى لإتقان العمل” د. عبدالمنعم عبدالباقي علي
تخريمة (1): الوعي الغذائي والصحي يتماشى مع دعم الموازنة العامة:
الوعي الغذائي واكتمال الصحة يتطلب:
1) التقليل من تناول الدقيق الأبيض: أضرار الطحين الابيض: يخلو من كثير من العناصر الغذائية والمعدنية والألياف التي توجد في حبة القمح أو الذرة الكاملة = قراصة، عصيدة، الخ…
2) عدم الإسراف في السكر: من 3 ملاعق قد تكفي واحدة أو اثنان- هذه من شأنها أن توفر ثلث إن لم يكن النصف لمبالغ الشراء للمواطن وثلث مبالغ الإستيراد للحكومة وهي بلا شك ارقام مهولة. علاوة على خطورة السكر في المساهمة في زيادة الوزن وأمراض السكر وخلافه…
3) التشجيع على المشي واستعمال المواصلات العامة بدلاً عن إستعمال السيارة الخاصة أوالرقشة (لا نقول الحمار أو الحصان) حتى للمشاوير القصيرة (فوائد المشي المتعددة ….)، هذه الخطوة تتطلب توفير وسائل المواصلات العامة وخفض سعرها ومنحها الاولوية في السير (صعبة جدا هذه) اسوة بدول نجحت في هذ المجال لكن الثورة قادرة على إحداث مثل هذه التحولات.
*****
قد يرى البعض كيف نقارن القمح والسكر والوقود بالذرة واللحوم والخضروات وزيوت الطعام وخلافه في الدعم من عدمه؟ إن خطوة رفع الدعم مع ذهاب قيمة الدعم في الطريق الصحيح فيها تحفييز لاستهلاك الذرة والدخن أو خلط الذرة بالقمح لعمل الخبز (اي نسبة فوق 5% من الذرة توفر قدرأ معتبراً (statistically significant) من العملات الاجنبية). الذرة والدخن ليست بالسلع الهامشية وتمت الإشارة لها هنا لإمكانية انتاجها في معظم مناطق السودان على العكس من القمح الذي يتطلب بيئات شتوية محددة. عموماً يتوقع أن ترتفع اسعارالذرة الرفيعة لأن كثيراً من المزارعين أصلاً تحولوا لزراعة السمسم بدل الذرة في كثير من مناطق الإنتاج (سهولة الزراعة وقصر المدة والسعر المجدي). إن شعار “الحرية” يشمل كيف وماذا نأكل لتظل الخيارات متاحة في حدود الأمكانات المتاحة والمزاج. كذلك خطوة رفع الدعم توفر دعم للذين يستهلكون السلع (غير المدعومة) ويستخدمون طرق الإتصال”غير البترولية” خصوصا في الأقاليم وأن تنعكس مبالغ الدعم في مشاريع يستفيدون منها مثل الطرق والمياه والتعليم والصحة. هنا يحق لنا أن نقول أن العدالة تحققت، والعدالة ليس فقط داخل أروقة المحاكم ومكاتب العمل فحسب. الشيئ المخيف في السياسة الحالية ومن قبل خلال 30 سنة من عمر الإنقاذ هو غياب شعارات مثل “التنمية الريفية وتطوير الريف السوداني” التي رفعها الرئيس الراحل جعفر نميري أو شعار “تمدن الريف” الذي رفعه الدكتور جون قرنق بعد إتفاقية السلام الشامل 2005م. إن وجود مثل هذه الشعارات وتحقيقها كفيلُ بعكس الهجرة من المدن للريف وهي من أكبر التحديات الحالية، إذ أن حال المدن لا يمكن إصلاحه في ظل الكم الهائل من البشر الذين يتواجدون في مكان واحد يتنافسون على المياه والمواصلات والكهرباء والصرف الصحي وخلافه. لو سافر السيد رئيس الوزراء على سبيل المثال بشارع مدني– سنار، ونحن على ثقة أنه سوف يفعل، فسوف يصاب بالدهشة (من قرية توتوماتا) للدرجة التي وصل اليها حجم الدمار في البنيات الأساسية للسودان التي خلفتها الإنقاذ! في هذا الطريق – وغيره كثير- حيث أنه أصبح من الضروري أن يكون معك عدد 2 إسبير من العجلات كحد أدنى (هذه ليست مبالغة)!
تغير النمط الغذائي من الذرة أوالدخن للقمح ظاهرة يصعب عكسها (للكسرة أوللعصيدة أو للأرز) الكسرة أصبحت تقدم في شكل تحلية وميزة يتمتع بها المغتربون وأصحاب عربات فارهة تقف بجوار ستات الكسرة – يعني غالية!. يصعب عكسها ربما لصعوبة صناعة هذه الاغذية وربما لأسباب أخرى. كذلك إمكانية الحركة الزائدة والمجاملات (البسوا والما بسوا) عادات وسلوكيات تبدو متجزرة تهلك المال والوقود وتحرم الاطفال من رفاهية “حبة برتقال” على حساب سفر الأب والأم للعزاء ومعايدة المرضى.
خطوة رفع الدعم بأي صورة تعتبر خطيرة وتحتاج لجرأة كبيرة في اتخاذها هذا إذا تم التوافق عليها. النظام البائد أقر بهذا النوع من الحلول (التحرير ورفع الدعم) لكنه تجنب تطبيقها مؤخراً حتى لا يثير غضب الشارع والذي خرج عليه في نهاية الأمر حتى في ظل الإبقاء على الدعم الكبير للسلع الاساسية وذلك لأنه ظل عاجزاً عن طرح أي حلول جادة وصادقة في ظل تفشي الفساد بدرجات غير مسبوقة.
تحويل أعداد كبيرة من الناس لمنتجين:
خطوة رفع الدعم أيضاً ضرورية لمحاربة السوق الأسود الذي استشرى على نطاق واسع وأصبح وسيلة عيش للكثيرين. السوق الأسود حول أعداداً كبيرةً من الناس لأشخاص غير منتجين حقيقين بل مساهمين في زيادة معاناة المواطنين |وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً| بتوفير السلع لكن بأسعار عالية للمحتاجين و”المضطرين لذلك” خصوصاً الوقود في مناطق الانتاج إذ يدفع البعض سعر يصل لـ 10 مرات أكثر من سعره الحقيقي المدعوم!
السوق الاسود وانتشار الطبقات الطفيلية والوسطاء ظواهر سالبة لا تستفيد منها الدولة ولا المواطن بل يساهم في تمدد حلقات الفوضى في الأسعار وضياع الزمن بحثا عن هذه السلع والخدمات بدلاً من التفرغ للإنتاج والعمل. مثلاً كيلو البطاطس يخرج من المنتج في شمال أم درمان بـ 10 جنية ويباع للمستهلك بـ 30 جنية نتيجة لحلقات السماسرة والوكلاء، أي أن الوسطاء يكسبون 20 جنيه في نصف يوم بينما يكسب المنتج 10 جنيه في مجهود 3 شهور. كذلك إنقطاع الخدمات وسوء إدارة الموارد يكلف المواطن ويخلفه عن العملية الإنتاجية. كيف؟ يضيع الانسان وقتاً ثميناً بحثاً عن وسائل لدرء آثار إنقطاع الخدمات وسوء إدارة الموارد، إذ يسافر بعيداً للعلاج ويصرف على التعليم الخاص ويتملك موتور لتوليد الكهرباء ويشتري برميل مياه ويدفع لخدمة ترحال بسعر يساوي 100 مرة عن سعر البص وغيرها.
الوعي الثوري قد يساهم في معالجة المشكل الاقتصادي:
إن من اكبر الدمار الذي خلفته الإنقاذ ذلكم الذي طال الإنسان السوداني نفسه والخدمة المدنية والعسكرية. بالنسبة للإنسان العادي الإقتصاد يتمثل في الأموال الداخلة للموازنة (واردات) وتلك الخارجة منها (إنفاق). وحينما يسلم الوارد والخارج وبكل بساطة يكون الاقتصاد معافاً. الفعالية والنزاهة في جمع الواردات وحسن التصرف في إنفاقها هو مربط الفرس للحكم الراشد وهي عملية معقدة إتضحت في فساد النظام السابق “الكبير جداً” متمثلاً في النهب الممنهج والتجنيب والحوافز غير القانونية والسفريات والتحلل والمشاريع والمنظمات الوهمية وهلمجرا… أولاً: إنخفاض الواردات وتدني الإنتاج (لقلة الوسائل والحافز لذلك) وانخفاض الواردات من ضرائب وجمارك (تندرج على الشرائح البسيطة ويتهرب من دفعها النافزون!)، ثانياً: سوء الإنفاق الذي يتم بمخالفات بائنة (كما ظل يردد المراجع العام على مر السنين) ذلك بدلاً من إنفاقها في القطاعات الانتاجية والخدمية بصورة موسسية وبمحاسبية وشفافية التي ظل يطالب بها الناس.
غياب الفساد:
دعماً لعملية الوعي المطلوبة تحضرني إجابة عن رأيي في المانيا وكانت: “لا يوجد فساد” وسط تعجب محدثي الذي كان ينتظر إنبهار من نوع آخر، مستنداً على ذلك بواقعتين: 1) شربت قهوة في محل على الشارع تبدو عليه البساطة والأناقة، دفعت الفاتورة وعلى الفور تم إيداع الضريبة في الحساب الحكومي، وهي عملية بسيطة لا تلفت الإنتباه إلا لناس تفتقد بلدانهم تلكم “المدنية” والتحضر 2) في ذلك العام (2012م) دفعت المانيا مبالغ ضخمة لإخراج كل من اليونان والبرتقال من ضائقة الديون. أعتقد ان مقدرة المانيا على تسديد ديون دول اوربية مثلها ليس بسبب الصناعات والتقانات المتطورة التي تتمتع بها فحسب، ولكن لضبطها لعمليات التحصيل والإنفاق وغياب الفساد.
خطوة رفع الدعم قد تثير خفيظة الشارع إلا أذا …
كما اسلفنا أتخاذ خطوة رفع الدعم قد تثير خفيظة الشارع الذي هو على استعداد لإسقاط النظام الجديد في أي وقت. لكن يبدو أن الوعي الثوري سوف يتجاوب مع الحكومة الجديدة إن توفرت الشفافية والضمانات لإجتثاث الفساد بصورة واضحة. وانا اكتب في المقال شاهدت ناس من مدينة الجيلي يتحدثون في التلفزيون من داخل شوارع ممتلئة بالمياه ومنازل منهارة تماماً عن أن السبب في الغرق الذي طال المنطقة سببه التصديقات لعمل مزارع في مجري المياه!! صورة من صور الفساد المتعدد!
ربما المصداقية والشفافية التي نتمنى أن تتمتع بها الحكومة الجديدة ليس بالأمر الصعب وقد تتضح للمواطن من أول خطاب للحكومة. تكمن المشكلة في النظام السابق الذي جعل المواطن يفقد المصداقية في الحكومات المتعاقبة، وسوف لن يكون سهلاً أن تحظى الحكومة المرتقبة بهذه الثقة من الأيام الأولى. لم تجدي المناشدات من النظام السابق بدعوات زيادة الانتاج والترشيد والتضحيات والتحويلات والاستثمارات والإيداعات وخلافه بدواعي تحسن الاحوال المعيشية والاقتصاد الكلي، على النقيض من ذلك أصبحت الحكومة البائدة معزولة تماماً ومشلولة. هذا في الماضي أما الآن فعلى الحكومة الجديدة أن تكسب ثقة المواطن ليعينها ويتحمل حتى الجراحات المؤلمة التي ربما تؤدي للإنفراج بحول الله.
محمد الأمين حامد
[email protected]
يامحمد الامين انت يقولو ليك تيس تقول احلبو ؟