
يقول الفيلسوف و الكاتب و البحث جون هرمان راندال في مقدمة “كتابه تكوين العقل الحديث” الذي تناول قصة النهضة و التنوير في أوروبا قال ” و ما تاريخ الإنسانية سوى تاريخ جهود و أبنية تتناولها يد الإنسان بالتعديل المستمر فتتسع لتآليف التيارات الجديدة للحياة. و هو أيضا قصة جدران قديمة شاخت فعملت فيها معاول التهديم ثم أعيد بناؤها بأشكال جديدة”
يقال في الثقافة السياسية: أن الفارق بين الشخص المتعلم العادي و المفكر، أن الثاني هو الذي يستطيع أن يطرح عليك تساؤلات تجعلك تخرج من دائرة التفكير المبسط و الرغبات الخاصة و التناول السطحي للأشياء، إلي التفكير العميق، الذي يجهد العقل جهدا يجعله يغير طريقة التفكير، أو حتى استلاف مناهج جديدة لتسهيل عملية الفهم. و الاشتغال بالعقل ليس فقط في تغيير عناوين الموضوعات المطروحة في الساحة السياسية، بل طريقة التفكير فيها بمنهج جديد. هذا هو الذي قدمه الدكتور عبد الله حمدوك في أول مؤتمر صحفي له، كلمات قليلة، و لكنها ترسل إشارات عميقة المعنى و المدلول، و إذا تتبعنا التعليقات علي حديث رئيس الوزراء في مؤتمره الصحفي، تجد أن كل معلق قد حصر تعليقه في القضية التي تهمه، أي الذي يشتغل بالاقتصاد تناول القضية من الزاوية الاقتصادية، و السياسي تناولها من باب السياسة، و الإعلامي من باب الإعلام، الأمر الذي يدل علي أن الإشارات كانت قوية ذات مغذي عميقا، قبل ذلك كانت التعليقات لا تأخذ باب التخصصية، الأمر الذي يدل علي تغيير في طبيعة تناول الموضوع من الشكل العام غير المتخصص، إلي التخصصية في القضايا المطروحة.
قال حمدوك في مؤتمره الصحفي؛ أن عهد الأيديولوجية في الاقتصاد قد انتهى و هناك خلط بين المدارس الفكرية في الاقتصاد علي أسس برجماتية. أي أنه لا يلتزم بمدرسة فكرية بعينها في الاقتصاد أنما يحاول أن يوظف كل هذه المدارس المطروحة برؤية برجماتية لخدمة منفعة البلاد و مصالح آهلها. و هي رؤية فكرية قابلة للحوار بين الذين ينتمون لمدارس فكرية متعددة، و الإشارة واضحة أن السيادة للمدرسة الأمريكية الفلسفية البرجماتية في الاقتصاد، و التي تعتبر النجاح في العمل المعيار الوحيد للحقيقة، و المبدئية هي كيفية توظيف كل القدرات و الآليات بهدف تحقيق نتائج طيبة، دون الدخول في صدام مع القوى المخالفة، بل كيف استثمار معارفها و إمكانياتها من أجل المنفعة المطلوبة. فالمقولة في حد ذاتها جالبة للجدل الفكري، و مساعدة علي تغيير في طبيعة التفكير السائدة في البلاد، و التغيير من جل بيزنطي تتحكم فيه العواطف السياسية الانتمائية، إلي جدل فكري يقدم الأشخاص الذين غاب دورهم في عملية البناء في البلاد، فالأيديولوجية هي أحكام مسبقة تحاول أن تفرض شروطها علي تفكير الآخرين، و هي تحمل أفكار جامدة ليس فيها شيئا من المرونة ” من ليس معي هو ضدي” و الأمر الذي أدي ألي ضمور في عملية التفكير في البلاد. و دعوة حمدوك تريد أن تتحرر الفرد من التفكير الجامد الذي جعلته الأيديولوجية ثقافة سياسية في البلاد، إلي تحرر الفرد للإتصال بكل الأفكار في العالم و الاستفادة منها في مشروع البناء بكل جوانبه ” اقتصادي – سياسي – ثقافي – اجتماعي” و حتى الذين يختلفون مع دعوته عليهم مقابلتها بأفكارهم من خلال الحوار الفكري. فهي إشارة قوية لإحداث نقلة في طريقة التفكير علي أسس جديدة. و بعد كل ذلك نسأل حمدوك هل البرجماتية الجديدة في خلط أوراق الأفكار الآخرى بهدف المنفعة سوف لن تعود بك مطلقا للأيدلوجية التي كنت أحد رموزها في العمل السياسي من قبل؟
في الإعلام و الصحافة: قال حمدوك في رسالته للإعلاميين و الصحافيين يجب عليهم أن يمثلوا السلطة الرابعة في البلاد، و أنه سوف يقدم لهم كل المعلومات المطلوبة التي تمكنهم من أداء رسالتهم، و قال أن قبائل الإعلاميين تلعب دورا محوريا في عملية التغيير و البناء. هذه إشارة تبين البعد الديمقراطي في مخيلة حمدوك، باعتبار أن الإعلام و الصحافة لا يستطيعان الخروج من جلباب السلطة و فرض أرائها إلا في نظام ديمقراطي، فيه فصل كامل للسلطات، و الخروج من جلباب السلطة و احتكاريتها، هي التي تجعل الإعلام يلعب الدور المبادر في تقديم الرؤى و التصورات الجديدة، و يوسع دائرة الحوار السياسي و المجتمعي في البلاد، حيث تبرز المدارس الفكرية ليس بشعارات أقصائية، أنما من خلال ما تقدمه من مشروعات سياسية و أفكار تساعد علي عملية البناء. و الإعلام و الصحافة أكثر الأدوات القادرة علي لعب دور في عملية التغيير، باعتبارها قادرة علي أحداث أختراق في البنية الثقافية السائدة، و العمل علي هدم السالب فيها، لآن الثقافة السائد تحتضن كثير من الإشارات و الرموز الشمولية و هي تمثل عائقا لعملية التغيير. لكن يصبح السؤال هل بعض المنتمين لقبائل الصحافة و الإعلام قادرون علي الفكاك من الإرث الشمولي و الإسهام في عملية التحول الديمقراطي، هذه مسار حوار و نقاش، لآن عملية الأسهام تحتاج لتبديل القناعة و يصبح الإسهام نابع من قناعات مبدئية. هي فكرة جدلية استبطنها حمدوك في رسالته، عندما قال أن نجاحنا يعتمد علي دور هؤلاء في عملية البناء.
عندما قال حمدوك أنا قد رشحتني لهذا الموقع قوى الحرية و التغيير، و لكن بعد أداء القسم أصبحت رئيس وزراء لكل السودانيين، هي أيضا إشارة تستبطن الثقافة الديمقراطية، أن تكون منتميا سياسيا و تجادل من أجل قناع الآخرين بتبني الفكرة، و عندما تنتقل إلي دولاب الدولة أن تتعامل بصورة الوطنية في الأداء بعيدا عن الحزبية و عملية الاستقطاب، التمييز و الفصل بين الوظيفة و الانتماء الحزبي، و هذه لا يقدر عليها إلا المؤمنين بالديمقراطية و متشبعين بثقافتها. فرئيس الوزراء أراد من خلال مؤتمره الصحفي أن يرسل رسائل تأخذ بعدها الفكري، و يجب أن يتعامل الآخرين معها بهذا البعد الفكري، و مهمة البعد الفكري أن ينقل الناس نقلة نوعية في عملية التفكير. و في ذات الوقت يعتبر محاولة لطرح أسئلة تهدف لتغيير مناهج التفكير السائد و خلق أرضيات مشتركة عبر الجدل و الحوار بين الأفكار المختلفة. نسأل الله التوفيق و حسن البصيرة.
زين العابدين صالح عبد الرحمن
[email protected]