مقالات سياسية

كارثة السيول.. ومنهج ليّس يطلع كويس..!!

عبارة (ليّس يطلع كويس) تُقال في حالات الغش والخداع وتطلق على العمل المغشوش، هذا في حالة وصف أي عمل اتسم أداؤه بـ(الكلفتة) وجاء على طريقة (دفن الليل أب كراعاً برّه)، ومن جهة أخرى للعبارة استخدام آخر يتجاوز مجرد الوصف أو تقرير حالة ماثلة، الى الحث والتحريض على المضي قدماً في العمل الذي لا تبشر مقدماته بالجودة ورغم ذلك يشجعونك لاكماله بمظنة أنه على سوء طريقة أدائه قد (يطلع كويس).

وللأسف فقد نُفذت على هدي هذا المنهج المعطوب كثير من مشاريع البنى التحتية من طرق وكبارٍ ومصارف حفلت بالأخطاء الفنية والهندسية فأُنشئت على طريقة (عدّي من وشك) جرياً وراء الكم والكثرة على حساب الجودة والمتانة حتى يُحسب ذلك إنجازاً يضاف الى (ميزان الحسنات)، هذا اذا أحسنا الظن، أما إن أسئناه لذهبت بنا الظنون الى أن في الامر مفسدة و(تمسحة) أو سوء إدارة وقلة مهارة..

من البدهيات التي أضحت معلومة بالضرورة، أن أيما كارثة تحل بأي مجتمع تمر بثلاث مراحل، هي على التوالي، مرحلة ما قبل وقوع الكارثة، وأثناء حدوثها، وما بعد حدوثها، هذه التراتيبية التي تصاحب حدوث الكوارث، فرضت ذاتها على الأسلوب والكيفية التي تدار بها الكارثة، فإدارة أية كارثة والتعاطي معها لدرء خطرها وكف آثارها المدمرة تمر أيضاً بذات المراحل الثلاث، أما وأننا الآن في قلب الكارثة التي خلفتها الأمطار المصحوبة بسيول وضربت أجزاء من العاصمة الخرطوم ونواحي اخرى متفرقة من البلاد، راحت بسببها أنفس عزيزة ونفقت أعداد كبيرة من الماشية وفقد الآلاف المأوى والممتلكات، وانقلبت حياتهم رأساً على عقب، وأصبحوا في حاجة ماسة وعاجلة للغوث والمساعدة، بتوفير الحماية والملاجئ الآمنة والعناية الطبية والاجتماعية واحتياجات الحياة الضرورية الاخرى من مأكل وملبس ومشرب، تكون البلاد ما تزال في مرحلة حدوث الكارثة، وهي المرحلة التي تتطلب توجيه كل القدرات والامكانيات وحشد كافة الجهود للسيطرة ما أمكن على هذه التداعيات المؤسفة والمحزنة حتى لو تطلب الأمر طلب المساعدة الدولية.

وتعقب هذه المرحلة الحلقة الاخيرة من الكارثة وهي مرحلة إعادة تأهيل المنكوبين نفسياً ومعنوياً وإعادة حياتهم إلى طبيعتها بجبر ما تعرضوا له من أضرار وإعادة بناء مساكنهم المدمرة وبذل كل ما يمكن أن يعيدهم لممارسة حياتهم المعتادة.

غير أن ما أهمني هنا هو مرحلة ما قبل وقوع الكارثة، وما تتطلبه هذه المرحلة المهمة جداً من احترازات وتدابير يستلزم القيام بها تحسباً لأية كارثة أو خطر محتمل، ومن البداهة هنا التنبيه لضرورة توقع اسوأ الفروض والاحتمالات وبناء خطة المجابهة عليها لتأتي المعالجة كلية وشاملة لكل مظان الخطر ومكامنه حتى لو لم تشكل خطراً من قبل ولكنها تظل مثل القنابل الموقوتة أو (الخلايا النائمة) يمكن أن تنفجر او تصحو يوماً ما، لسبب ما، وتفعل فعلتها، كما حدث في الكارثة الحالية، حيث لم يتعظ القائمون على الأمر بما سبقها من كوارث، حين اهتموا فقط بالمناطق التي تأثرت تأثيراً مباشراً واجتهدوا في اجراء معالجات جزئية افتقدت النظرة الكلية التي كانت تتطلب النظر لكامل الخريطة الطبوغرافية والكنتورية لولاية الخرطوم بل وكل السودان وعلى ضوئها تحدد بدقة مسارات السيول حتى لو كانت خاملة لعشرات السنين فتنشئ عليها ما يحميها مستقبلاً، خاصة وأن التغيير في المناخ صار معلومة يعرفها حتي شفع الروضة، ونفس الشئ ينطبق على غلوتية المصارف والمجاري التي لم تفعل الولاية ازاءها شيئا يذكر غير أنها ظلت تذكرنا لسنين متطاولة بتكلفتها العالية ثم تطبق يديها وتصمت، في حين أنها في كل عام لو انجزت شبراً لكانت الآن قد أكملت بنائها..

الآن وقد حدث ما حدث ووقعت الكارثة وحلّت الفجيعة التي نسأل الله ونتضرع إليه أن يخفف وطأتها ويلطف بعباده من آثارها خاصة في الناحية الصحية، أظن أنه قد آن الاوان للتركيز على معالجة المحتمل من الكوارث قبل حدوثها، حتى إذا ما وقعت كارثة -لا قدر الله – وجدتنا على أهبة الاستعداد على الاقل لتخفيف وطأتها وتلطيف حدتها، ولمثل هذا العمل آليات ونظم إدارية وفنية وتحضيرات معلومة لأهل الاختصاص عليهم أن ينهضوا بها ولو بأضعف الإيمان بتقديم النصح والمشورة لمن بيدهم الأمر والفعل.

الجريدة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..