مقالات سياسية

لن ننساكَ ; يا كِشَّة

شكري عبدالقيوم

قبل قليل , مَرَرْتُ بمنزل الشهيد .بدا لي أنِّي رأَيْتُ والدَه داخلاً إلى البيت ،كعادته ،في مثل هذا الوقت من كل ليلة ،عائداً من مجلسنا عند صلاح بشير . ..وعلى أهدابه ليلٌ لا يُفَسَّر . . نُورٌ يَتَكَسَّر، يتسلَّل الفرح من وجهه وتغشاهُ البُشْرَى ،مُشوَّشاً نازِلاً إلى أرض الناسِ معتذراً.  ..
بطبعي أتجَنَّب مواقف الضعف والحزن والاستسلام، هكذا فطرتني الطبيعة مشيئةً ومشيمة ،لا أُعَزِّي ولا التمس التعزية من أحد. وعشان كده كبَّرْتَها طوالي .
موكب 25 ديسمبر 2018م ،كانَ الموكب الأصل،منه انطلقت الثورة وإليه ستأوي .قبل توقيت الثورة بحوالي نصف ساعة كنت واقفاً بالقرب من مركز النيلين ،وهناك تحت العمارة المقابلة كانَ هناك شابان وثلاثة شابَّات جلوس مفرقين ،لكن من الواضح أنَّهم شُلَّة واحدة .صامتون لا يتكلمون .ومن الزقاق على اليمين قَدِمَ الشهيد كِشَّة. سَلَّم على الشابَّة صاحبة العباءة السوداء ،رُبَّما دار حديث قصير جداً بينهما ،وانطلق شرقاً اتجاه منزلهم .وكانَ الترتيب أنْ يقوم Abdo Alkhalig Almalik..بتمشيط شارع المك نمر حتى الكبري ،على أن نلتقي في شارع البرلمان .وهكذا التقينا ،وانطلقنا سَوِيَّاً عبر ساحة أتنيه باتجاه شارع الجمهورية .وقفنا لثوان تحت الشجرة ،حيث كانت Rishan Oshi..ترابط هناك برفقتها شابَّة أخرى لم أتعرَّف عليها ..
انطلقت الثورة في تمام الواحدة بتوقيت الثورة ،واستمرَّت خمس ساعات متواصلة تهدرُ في الشوارع كالسيول .كانت الوجهة المقررة هي القصر الجمهوري .في لحظة وجدتُ نفسي أمام عمارة جعفر قريش ،وكانَ الإثيوبي حارس العمارة في عهدته كمَّامات وملتوف.  لم أجد الحبشي .فاتجهتُ إلى السكن .وفي شارع البنك الفرنسي كانَ الشهيد كِشَّة يوجِّه الثوار بالمُضِيّ جنوباً إلى شارع السيد عبد الرحمن .انعطفتُ يساراً فوجَدْتُ عثمان خليل مُطارَداً من أمنجية ،فقُمْتُ بتأمينه سريعاً إلى الطابق الثاني بعمارة السواقي ..وأغلقْتُ عليه الطابق من الخارج ،وعُدْتُ نازِلاً، لأنّني لستُ معروفاً لدى الأمن كعثمان وعبد الخالق،وهذا من بركات عدم ظهوري في الجامعات وعدم استمراري في أيِّ كلية من الكليات الأربع التي التحَقْتُ بها ،فالأمن يستقي معلوماته وملفاته عن الثوار من الجامعات في المكان الأوَّل إضافةً إلى غواصاته في الأحزاب الأخرى والأحياء السكنية.كانت هناك جموعٌ كثيرة تواجهها قوات الأمن ببمبان كثيف ،في البداية ،ثُمَّ بالرصاص الحي..ومن وسط الجموع خرج شابٌّ وسيم ،وتقَدَّمَ الصفوف ثابتاً يهزج بأُنشودة الحلم الأخير،و يواجه الرصاص بصدر عاري بيد مسالمة ،وعزيمة لا تلين ..ذلك الشاب كانَ نفسه الشهيد ; كشة .كانَ ظاهرة كُبْرَى تُوصَف ولا تُعَرَّف ،كانَ صادقاً وكانت الحقيقة أكثر تعقيداً،كانَ صقراً خَوْجَل ،وخَلَّى الرَّخَم بارْكِين .
وهكذا إلى أنْ استقرَّت طلقةٌ في صدره ،ذلك الصدر الذي فَارَ بالعشقِ عُمْراً ، وفَارَ بالثورةِ حُلْماً ،وفَارَ بالأحلامِ سنوات .. ..إلى أنْ فار بالدم غاسلاً كل الخطيئات ،وغافِراً كُلَّ ما كانَ ، ويكون .. ومُبَرْهِناً أنَّ الأمل يلد الحياة ،وأنَّ الموت غير قادر على هزيمة الرجاء ،وأنَّ الرصاص بائِسٌ وجبان إذا الشعبُ يوماً أرادَ الحياة . ..
   – لن ننساك , يا كِشَّة – –
             “شُكْرِي”
شكرى عبد القيوم
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..