مقالات سياسية

حمدوك وثلاثية الحرب والحرية والحرامية

أبو الحسن الشاعر

مدخل: ( لا يمكن للثورة أن تنجح وأعداؤها الذين ثارت عليهم يتحكمون في مفاصل الدولة)
في البدء نقول مبروك .. للسيد الدكتور حمدوك .. ونتمنى له التوفيق ليكون بقدر التحدي الذي يفرضه واقع الوطن المرير .. وإن كنا لا نشك في مقدرات الدكتور العملية إلا أن بعده طويلا عن الوطن سيجعله في حاجة لوقت غير قصير لاستيعاب مدى الدمار والخراب الذي حاق به وأصابه بالتصدع اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا ، فنحن الآن نجلس على كومة من بقايا الوطن التي تحتاج منا جميعا إعادة بنائه بروح التضامن والولاء والتجرد والنزاهة.
إن أول معضلة أقعدت الوطن عن النمو والتطور وكانت الورقة الرابحة للقوى الدولية للتدخل في السودان كانت هي الحرب، وهي التي أدت بالدرجة الأولى للأحقاد الاجتماعية المترسبة التي أدت بالوطن أن يفقد جزءا عزيزا منه كما أنها هي التي أنهكت الاقتصاد طيلة أكثر من ستين عاما ولعل كل ما حاق بالوطن من دمار كان أسه وأساسه الحرب التي فشلنا للأسف في وضع نهاية لها .. وهي ذات الحرب التي كانت سببا في انقلاب الإنقاذ حيث تم التمهيد للانقلاب بإشاعة الفوضى التي خلقتها الجبهة القومية الإسلامية وغلاء المعيشة وضعف الأداء العسكري في الجنوب والذي اضطر معه الجيش لرفع المذكرة الشهيرة للصادق المهدي، بعد أن أنهكته الحرب ووجد وضعه حرجا وكان ذلك دافعا لتذمر شعبي وتحريض للكثيرين من الضباط للتسابق على الانقلاب على الديمقراطية.
إن وقف الحرب يجب أن يكون على رأس سلم الأولويات .. وكما أسلفت في مقالات سابقة فإن قوى الحرية والتغيير ليست عدوا للحركات المسلحة بل هي جزء منها
وعليه فالتحاور ينبغي أن يكون بين الجميع كما أنه ليس لقوى الحركات المسلحة ثارات مع قوى الحرية والتغيير وهذا يجعل التوصل لمناقشة أسباب الأزمة ومسبباتها سهلا فإذا كان الإخوة في الحركات المسلحة يرفعون قضايا الهامش فالسودان كله من الهامش وقبل الحديث عن المطالبات أقترح أن يتكون وفد مشترك من قوى الحرية والتغيير والحركات المسلحة وأن يطوف أقاليم السودان، وسطها وشمالها ” تحديدا ” لأنه الإقليم المتهم زورا بأنه يستأثر بالتقدم والثروات ثم شرقها وغربها فليس من رأى كمن سمع وأنا على يقين بأنهم سيعودون جميعا بقناعة تامة أن كل من هو خارج الخرطوم ” العاصمة الداخلية وليس أطرافها ” وبعض المدن من حقه أن يرفع السلاح .. عندها فقط سيعلمون أن الظلم لا يقتصر على إقليم وأن الفقر يعم حتى أولئك القاطنين على ضفاف  النيل، وسيجد بعض من رفعوا السلاح أن هناك من هو أجدر بحمل السلاح منهم لو كان ذلك يحل قضية أو يجلب ثروة.. فإذا اتفقنا بأننا جميعا ” في الفقر والتهميش سواء ” تكون حجة حمل السلاح قد سقطت ويبقى علينا فقط  أن نحمل جميعا ” سلاح الإنتاج ” لنقاتل به الفقر .. مع حفظ حق من تضرروا من الحروب في مناطق النزاعات في إعادتهم لمناطقهم أو إعادة توطينهم ودفع الضرر ورفعه عنهم.. لنبدأ صفحة جديدة..
أما الأمر الأكثر خطورة في نظري فهو ” الحرية ” التي هي إحدى ضرورات النظام الديمقراطي ..وضرورة ممارستها بشيء من المدنية والتحضر والرقي لأن مخاطرها على نظام يحيط به الأعداء كبيرة خاصة ونحن جميعا نعلم بوضع البلاد واستحالة تحويل الواقع المتردي بين يوم وليلة .. لذلك فليبدأ الحكم بالاعتماد على الثوار الشباب ليكونوا طليعة الشعب لمعالجة الأمور بحكمة وممارسة ” الحرية المسؤولة ” واستغلال أجهزة الإعلام في التوعية بدلا عن تفرغها للغناء وتنبيه وتوعية المواطنين بأن عليهم وقف جميع المطالب الفئوية الخاصة بالتظلمات وتحسين الأوضاع .. وكذلك وقف جميع الاحتجاجات الخاصة بهيكلة الوظائف وترك ذلك للحكومة للقيام بالتغيير في كافة المؤسسات ، كما أن علينا ممارسة الحرية المنضبطة وتوقير واحترام المسؤولين وعدم الإساءة لهم ” وقد رأينا ما يسئ حين طالب بعضهم رئيس الوزراء بالخوض في الماء وكأن خوض الماء يمثل حلا لمشكلتهم ” !! ويجب تنوير كل أطياف المجتمع بضرورة السلوك الراقي سواء على وسائل التواصل أو في السلوك العام في الشارع لنقدم نموذجا للوعي الحضاري وتفويت الفرصة على المتربصين بالثورة الذين ما انفكوا يشككون فيها وفي قيمها السامية ولنتذكر أن قوى الشر ستظل تلاحق الثورة بما يثير الفتن .
على الحكومة أن تكون حازمة أولا بالتوضيح والتوعية والالتماس والرجاء .. وثانيا بألا تسمح باستغلال ديمقراطية الشارع بصورة تضر بالاستقرار والإنتاج خاصة في هذه الفترة لأنها ستكون مدخلا لأعوان النظام البائد لكي يركبوا الموجة ويربكوا الأداء الحكومي تحت مسمى المطالب والاعتراض على سياسة الحكومة .. كما يجب أن تكون الشفافية من قبل الحكومة هي المرآة التي يرى منها الشعب القرارات ومكتسباتها ولو بعد حين فيما يكون الصبر والتضحية من قبل الشعب هما الرد العملي من أجل الوطن لأننا في نهاية الأمر لن نعاني أكثر مما عانينا وما كنا نعاني مع النظام البائد وقد كان باب الأمل آنذاك مسدودا والآن يمكننا أن نصبر على المعاناة وآفاق الأمل بعرض السماء.
ولعل الخطر الآخر الذي يواجه الحكومة والثورة هو أن النظام البائد نجح في تخريب الذمم وحول معظم العاملين في الخدمة المدنية إلى ” حرامية ” مما جعل الدولة برمتها تشهد فسادا غير مسبوق وليس أدل على ذلك من الممارسات الشائنة السالبة التي حولت البلد إلى متبطلين سماسرة وراشٍ ومرتش وفاسد ومفسد لغيره.. ملفات الأراضي تقف شاهدا .. وفساد الذمم في كل مرفق لا تخطئه العين كمثال المرور حيث لا يمكن أن تعرف سائق عربة يمر عليه أسبوع دون أن يقدم رشوة لعسكري أو ضابط حركة ، وتحويل العملة إلى سلعة يساهم في بيعها موظفو البنوك والمؤسسات التي تتسلم رسوم الخدمات يعرفها القاصي والداني .. وسرقة البنزين وبيعه بأضعاف ثمنه وتهريبه وسياسة تجنيب الأموال التي تدفع في شكل حوافز وشراء المواقف والضمائر لا خلاف حولها ، وفساد الجمارك مما يشيب له الرأس وجشع التجار وأكل أموال الشعب بالباطل إلخ … بل الأدهى من كل ذلك هو تغيير المفاهيم السودانية نفسها بحيث أصبحت السرقة شطارة وصار الحرامي الذي كان منبوذا من أكبر الناس قدرا وأكثرهم احتراما يتكالب المنافقون على الإشادة به والتقرب منه حتى غدا ذلك ظاهرة اجتماعية ..فلم يعد أحد يتساءل للأسف عن مصدر ثروة الآخر وإن كان قريبا أو نسيبا وهو يعلم أنها من حرام!!.. فلم تعد السرقة عيبا ولا نهب الدولة حراما، بل صار البعض يتمنى أن يصبح مثل ” فلان ” وهو يعلم أنه أكبر الفاسدين !!..
لقد أصبح الفساد الذي صنعته الدولة مرضا اجتماعيا .. وإذا كنا لا نستطيع تغيير معظم موظفي دولة الإنقاذ عمليا فيمكننا تفعيل القوانين الصارمة ضد كل متجاوز مهما صغرت وظيفته لإعادة الهيبة للخدمة المدنية ، وعلى شباب الثورة الذين رأينا فيهم بشائر مجتمع دولة السودان الجديد في ساحة الاعتصام تواددا وتراحما وانضباطا وإخاء واعتزازا إلخ .. أن يكونوا حراسا لقيم الثورة لإعادة بناء سودان العزة والحضارة وقيم المجتمع النبيلة ، عليهم القيام بمراقبة تلك الرذائل الاجتماعية والتضييق على مرتكبيها وعلى الدولة القيام بواجبها تجاه بقايا دولة الحرامية البائدة فتبدأ بكبارهم من فراعنة المال الحرام الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد وترميهم بالسجون وتسترد منهم الأموال قسرا ” بلا تحلل ولا سترة ” وأن ينالوا عقابهم على إفقار الشعب ونهب ممتلكاته.. ومن المعالجات السريعة إجراء تعديلات واسعة في الوظائف العليا بالدولة فأينما وجد ” كوز ” وجد الفساد .. والمسارعة في إبعاد أذيال النظام السابق وخاصة أولئك الذين تم تعيينهم تعيينا سياسيا أو قفزوا دون استحقاق لوظائف مرموقة بالإضافة لتصفية جهاز الخدمة المدنية من الوظائف الوهمية ووقف جميع الوظائف عن طريق التعاقد والانتداب والتي أصبحت قناة للنهب والسرقة وتنفيع المقربين.
خاتمة:
أن ما يدعو للقلق هذا التساهل والتهاون الذي نتعامل به مع بقايا النظام منذ سقوط دولتهم .. فالإعلام وهو أول مظاهر الدولة والناطق باسمها يتحكم فيه أولئك الفاسدون .. نفس أوجه النفاق ونفس الأسلوب وكأن شيئا لم يحدث .. على الحكومة أن توقف صحفهم .. وتصحح الخلل البيّن في قنوات السودان الفضائية .. امنعوا استضافة مرتزقة النظام ومن يدعون أنهم خبراء استراتيجيين وعسكريين من أصحاب الأوهام  .. حاصروهم بتهم الترويج للنظام البائد والدفاع عنه فتلك جريمة لا تغتفر فقد كانوا سيف النظام الذي يبطش به وفمه الناطق بكل قبيح وكانوا يزينون للطاغية أفعاله وأعماله.
ونود أن ننبه إلى أن الثورات التي شهدها التاريخ كلها لم تجامل ولم تسامح أعداءها.. وإذا لم تضرب دولة الثورة على عجل بيد القانون الباطشة في محاكمات خاصة لاسترداد الأموال وإقصاء أزلام النظام البائد وسدنته من مفاصل الدولة فإنها بذلك تزرع بذور انهيارها .. وبهذا فقد قد بلّغنا وحذرنا ، فهل من مُدّكر !!؟ .

أبو الحسن الشاعر
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..