خطايا العقل السلفي للطبقة المستنيرة فى السودان

دخل الاسلام السودان منذ مئات السنين مع هجرات عربية مختلفة و على يد مشائخ الطرق الصوفية و قد قبله المجتمع السوداني بفطرة سوية و باعتدال فى غيرما تطرف و قد ظل هذا الدين يحكم المجتمع السودانى بطريقة مستقرة إلى أن ظهرت الحقبة الاستعمارية و مارافقها من تطورات سريعة و مضطردة شملت كل العالم و إنتشر التعليم و تبادل المعلومات و الخبرات الحضارية التى ظهرت إلى العلن فجأة خلال المائة عام الاخيرة, فى السودان تسيد الحركة السياسية حزبين دينيين كبيرين هما الامة و الاتحادى بعد خروج المستعمر البريطانى ثم ظهرت إلى العلن حركات فكرية أخرى تطورت لاحقا إلى أحزاب سياسية مثل الاخوان المسلمين و الحركة السلفية بكل مسمياتها و الجمهوريين, كل هذه الحركات إستمالت إلى صفوفها ذروة المتعلمين من خريجين و حملة ماجستير و دكتوراة و بروفسيرات و مفكرين للأسف معظمهم جندوا ملكاتهم الفكرية و التنظيمية لخدمة أحزابهم المبنية على أسس دينية و بالتالى خدمة أجندتهم الشخصة, لم يتوقف أحدهم يوما ليسائل نفسه ماذا نحن فاعلون من أجل الدين أو الوطن أو الاثنين معا.
ما نعرفه عن علوم الدين بجميع أقسامه وفروعه إنما عرفناه من خلال العلماء والفقهاء والمفسرين من السلف، وهؤلاء كما نلاحظ ولدوا وعاشوا بعد وفاة الرسول بقرن أو قرنين على أقل تقدير.. بل إن ما نعرفه عن حياة الرسول وأحاديثه الشريفة، يعتمد بدرجة أساسية على ما نقله لنا هؤلاء السلف..
الرسول الكريم تلقى الوحي، وانشغل طيلة حياته بالدعوة للدين، وفي عهد الخلفاء الراشدين انشغل المسلمون في حروب الردة (عهد أبي بكر)، وفي الفتوحات (بدءا من عهد عمر بن الخطاب)، وفي جمع القرآن الكريم (في عهد عثمان بن عفان)، وفي الفتنة الكبرى (مقتل عثمان، وحروب الخوارج والأمويين) منذ بداية ولاية علي بن أبي طالب. وما يتوفر لدينا من آثار أركيولوجية ومصادر تاريخية موثقة عن تلك الحقبة شحيح جدا، أما تفسير القرآن، والتدوين، وجمع الحديث، وعلوم الفقه، والعقيدة، والسيرة… فقد نشأت وتطورت في أواخر العصر الأموي، والعصر العباسي الأول..
وفي تلك المرحلة المتأخرة ظهرت أيضا التيارات والفرق والمذاهب الإسلامية المتعددة، وظهر علم الكلام، والعلوم الشرعية، والمعتزلة، والفلاسفة.. كما أن جميع من نعرفهم من علماء في الطبيعة والكيمياء والطب والفلك والفلسفة.. نشأوا في تلك الفترة (800~1100 م).. أي بعد القرن الثاني الهجري.
إذن، الإسلام الذي نشأ في مكة، وبشّر به النبي الكريم، فهمه الصحابة آنذاك وفقاً للأرضية المعرفية التي كانت سائدة في حينها، ولم يكونوا بحاجة لكل هذه التصنيفات والتقسيمات لفهم دينهم، فالرسول بين أيديهم، وبوسعهم سؤاله عن أية مسألة، وتلقي الإجابة مباشرة من منبع الدين الأصلي.. وكانت البيئة الثقافية والاجتماعية في ذلك الوقت بسيطة، وأقرب للبداوة، ولا تعرف تلك التعقيدات التي نشأت فيما بعد، خاصة بعد توسع الدولة الإسلامية، والانفتاح على التراث اليوناني والفارسي والروماني، وثقافات الشعوب التي فتحوا بلادهم..
فمنذ ذلك الوقت، أي مع نشوء الدولة الأموية، تغير شكل وبنية الدولة الإسلامية، ونظام الخلافة (والتي كانت تمثل مرحلة ما قبل الدولة، والأشبه بالنظام القبلي)، فعدى عن تحولها إلى نظام التوريث، بدأت الدولة تستفيد من تجارب وخبرات حضارات الفرس والرومان في بناء الدولة الجديدة، ومقتضياتها، وأشكالها، مثل صك العملة، وإنشاء الدواوين، والبريد، والجند، والشرطة، والسجون، وتشكيل الجيوش النظامية، وبناء المرافق العامة..
وفي العصر الحديث، نشأت علوم إسلامية جديدة، لم تكن معروفة سابقا، أهمها علم الإقتصاد الإسلامي.. فطوال المراحل السابقة، كان اقتصاد الدولة رعوي، في غاية البساطة (كل أموال الدولة بيد الخليفة، ويديرها شخص واحد بوظيفة أمين بيت المال)، والاقتصاد الإسلامي يقوم على فكرة التكافل الاجتماعي، وتوزيع الثروة بالعدل، واستغلال موارد الدولة، والتي كان أهمها الخراج، والفيء، والغنائم، والزكاة..
وبدءا من الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر ميلادي، سينشأ اقتصاد جديد، ومختلف كليا، وسيتطور لاحقا بسرعة مدهشة، حتى صار في غاية التعقيد والتشابك: (بورصات، أسواق مالية، بنوك، سعر فائدة، تبادل عملات، تجارة دولية، جمارك، رسوم، تضخم، انكماش، غسيل أموال، موازنة عامة، تأمين، أسهم، أوراق مالية، نمو اقتصادي.. إلخ) وتلك المصطلحات والتي تشكل لب وجوهر الاقتصاد الحديث، لم تكن معروفة ولا متداولة في تلك الأزمان.. فلم يرد فيها آية كريمة، ولا حديث نبوي، وحتى الفقهاء الأولين لم يعرفوها، وبالتالي كل من كتب عن الاقتصاد الإسلامي الحديث إنما اجتهد من تلقاء نفسه، اعتمادا على مبادئ عامة، وعلى فهمه وتأويله الخاص لأصول الفقه.. وهنا لا أناقش مدى دقة وصوابية هذا العلم، إنما للتأكيد على أنه علم مستحدث، تم استنباطه على يد مجتهدين من لحم ودم، ولا يكتسب صفة القداسة.
وبموازاة تطور علم الاقتصاد، تطور مفهوم الدولة نفسه، وأساليب إدارتها وأنظمة حكمها، بشكل يفترق كليا عن مفهوم الدولة السابق (أي في مرحلة ما قبل الحداثة).. وأيضا لا أجادل هنا في مدى صوابية دولة الخلافة بالمفهوم العصري، وحسب المعطيات الجديدة، بل أردت الإشارة إلى أن هذا النوع من العلم نشأ وتطور على أيدي مجتهدين من لحم ودم، ولا يكتسب صفة القداسة.
نعيش اليوم عصرا جديدا، يختلف في شكله ومضامينه عن كل العصور السابقة، فقد ظهرت مفاهيم حقوق الإنسان، والقانون الدولي، والديمقراطية، والعولمة، والإرهاب.. ونشأ معها تشكيلات ومنظمات ومواثيق ومعاهدات عالمية، لم تكن معروفة من قبل، وفي نفس السياق ظهرت مشكلات وأزمات جديدة كليا، أو تعمقت أزمات قديمة، واتخذت أشكالا جديدة، منها النمو السكاني، التلوث البيئي، الطاقة، تطبيقات التكنولوجيا، الحروب، توحش الرأسمالية… وكل ما ينبثق عنها من أزمات ومشكلات اقتصادية واجتماعية وسياسية يعاني منها الإنسان الحديث..
والعالم الإسلامي (الذي يعيش مرحلة تأخر وانحطاط) أمامه تحديات خطيرة وجدية، فإما أن ينخرط في منظومة العولمة الإنسانية، أو يظل في مؤخرة الدول.. وحتى لو اختار الانعزال، فعليه أن يستجيب لمتطلبات العصر، واجتراح حلول لمشكلاته العديدة والمعقدة..
ومن الواضح أن السلفية الإسلامية (التي تتبناها مختلف حركات الإسلام السياسي) لم تقدم حتى الآن حلولا ناجعة، وما زالت تعاني من أزمات خانقة، وتراوح في إطار التنظير، وضمن رؤية ماضوية، فضلا عن صراعاتها الداخلية، وبالتالي نحن بحاجة لخطاب إسلامي حديث، وعقلاني.. تماما كما فعل المسلمون في القرن الثاني والثالث الهجري.. مع مراعاة التغيرات الجوهرية التي أصابت كل مجالات الحياة في عصرنا الراهن..
إذن، مع أن جوهر الإسلام واحد، ومرجعيته محددة؛ إلا أنه ظهرت له صور ونماذج وتفسيرات متعددة ومتباينة، كانت في حقيقتها عبارة عن نتاج تفاعل حي بين مسلمي ذلك العصر وظروفهم الموضوعية والذاتية..
وخلاصة القول، أن الإسلام دين ديناميكي، مرن، متطور.. بدأ بسيطاً، بساطة البيئة التي نشأ فيها، وتضمن الأحكام والمبادئ العامة (القرآن الكريم).. ثم نما وتطور وأخذ صيغته الحالية (المتعددة) في العصرين الأموي والعباسي، وكل التطورات التي حدثت فيما بعد لم تبتعد كثيرا عنها (بسبب تعطيل الاجتهاد). وهي صيغة تشكلت وتطورت على يد فقهاء ومجتهدين بشر، وكانت انعكاسا للبيئة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي تبلورت فيها.
فإذا امتلك فقهاء وعلماء ومفسرو صدر الإسلام الشجاعة والتطور المعرفي ليقدموا تأويلاتهم وفهمهم الخاص للإسلام، وهم على بعد قرن أو قرنين من وفاة الرسول، فنحن اليوم، وقد مضى أزيد من ألف سنة على آخر تحديث للإسلام، بأمس الحاجة لتقديم رؤية جديدة ومتطورة للإسلام، خاصة فيما يتعلق بما ظهر من مستجدات..
وفي الوقع ثمة أسباب موضوعية أخرى تستدعي هذا التحديث، أولها: أن العالم الإسلامي يعيش حالة ضعف وتخلف، ويعاني من مشكلات وأزمات لا حصر لها، وثانيها: بسبب حالة التشرذم والتفكك والصراعات الطائفية والمذهبية، التي تتطلب خطابا توحيديا ديمقراطيا يستوعب الجميع، وثالثها: ظهور نماذج متخلفة ومتطرفة للإسلام السلفي (القاعدة، النصرة، داعش..) ساهمت في تشويه صورة الإسلام، وعمقت حالة الإرباك حول من يمثل الإسلام الحقيقي. ورابعها: تقديم إجابات عصرية عقلانية لتحديات العصر..
وإزاء قضية تحديث الخطاب الإسلامي، نحن اليوم أمام وجهات نظر متناقضة؛ منها ما تدعو لتنقية التراث الإسلامي من كل ما علق به من مظاهر سلفية متخلفة ومتطرفة، ومن خرافات، وتفسيرات مغلوطة.. سنرى هنا البحيري، صبحي منصور وغيرهم.. أو من يفسر القرآن برؤية يراها عصرية (محمد شحرور)، ومن يقدم قراءة نقدية للخطاب الديني برمته (نصر أبوزيد، محمد أركون، جمال البنا)، ومن ينتقد كل التراث الديني، ويدعو لتحييد النصوص التي لم تعد مناسبة في العصر الحالي، مثل مواضيع العبيد والجواري والغنائم والفتوحات والخراج والفيء والعقوبات البدنية.. (سيد القمني). ومن ينقد الفكر الديني أساساً (صادق جلال العظم)، ومن يعتقد أن أي عملية تجديد للدين إنما هي محاولة تجميل فاشلة (حامد عبد الصمد)، إضافة لما تقوم به السعودية ومصر من محاولات شكلانية لتجديد الخطاب الديني، تحت إشراف الدولة، وبما يخدم مصالحها.
في الموقف المضاد، سنجد المؤسسات الدينية التقليدية (وأهمها الأزهر)، ومعظم الحركات الإسلامية السياسية (أبرزهم الإخوان المسلمين),
عموما، هؤلاء يعتقدون بوجود نموذج موحد للإسلام، وهو صالح لكل زمان ومكان، وليس بحاجة لأي تحديث، بل بحاجة لدولة خلافة تطبقه بأمانة.. علما أن هذا الطرح (من وجهة نظر من يدعو للتجديد)، غير واقعي، وغير تاريخي، بدليل ما نراه اليوم من صور متعددة ومتناقضة لنماذج كلها تعتقد أنها تمثل “الإسلام الصحيح”.. وأن دولة الخلافة، من بعد الخلفاء الراشدين، كانت عبارة عن إمبراطوريات عائلية، طبقت نماذج مشوهة للإسلام. أما النموذج السائد حاليا، فهو ما تم تناقله عبر الأجيال كجسد بلا حراك، ودون روح، وهو النموذج الذي ساد بعد تراجع دور العقل لصالح النقل وتقديس النصوص، وبعد تفريغ الإسلام من مضامينه الثورية.
إن ما تم فى السودان على يد الحركة المسماة إسلامية كان أبلغ مثال على عدم صلاحية أنموذجها حيث أستغل الدين بطريقة عاطفية و غامضة و مايزال و تناسى المتعلمون دورهم الطليعى فى دفع حركة التجديد و الاجتهاد و حتى الدعوة الاخلاقية للدين ,وهجموا على السلطة و كرسوا للخلافات فيما بينهم و إنشغلوا بمتاع الدنيا الزائل و كنزوا الاموال و تزوجوا مثنى و ثلاث و رباع و سفكوا دماء الغير و خربوا وطنهم .
إذا اتفقنا على أهمية وضرورة تجديد الخطاب الديني؛ فالأسئلة المطروحة: هل يمكن ذلك دون مناخ ديمقراطي يضمن حرية التفكير والتعبير والاجتهاد، بكل صراحة، ودون تخويف أو تكفير من الغير؟ هل هذه المهمة منوطة برجال الدين فقط؟ وهل يمكن للنخب المثقفة من خارج المؤسسة الدينية أن يؤثروا في هذا الاتجاه؟ والسؤال الأهم: إلى أي مدى يمكن ذلك؟
صلاح فيصل
[email protected]
مهمة صعبة ولكن شريفة. وقداسة الدين هي التي تجعل الناس كل الناس يختلفون حوله. فالذي يقدس فأرا أو قردا لا يشك في ضلال الآخرين عامة ويتعوذ بفأره من ضلالهم. ولن تستطيع إقناعه أنه على باطل امجرد ظنك أنك على الحق لانه يملك الشعور نفيه. والله سبحانه يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله :( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) فاجتماع الناس على فهم واحد للدين أمر مستحيل. إلا ما كان في الأزمنة الماضة بدليل قوله تعالى : كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. الآية. وما كان من أمر نوح ومن آمن معه وقال الله عنه : وما آمن معه إلا قليل. ولن يجتمع الناس إلا على شر في آخر الزمان وينعدم الخير المحض فأولئك شرار الخلق وعليهم تقوم الساعة.
وهذا لا يرفع التكليف بالدعوة للخير ولو على قرار ( وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون)
اللهم نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.