مليونية العدالة

تجلت عبقرية ثورة ديسمبر بطرحها شعار حرية سلام وعدالة كمحاور أساسية لموضوعات الثورة وأهدافها، للإنعتاق من ظلمات حكم الإخوان المسلمين الشمولي الجائر وتأسيس الحكم القائم على الحرية والإحتفاء بالتنوع(السلام) في ظل دولة ديمقراطية تقف على مسافة واحدة من الجميع (عدالة) بلا محسوبيات ، فتمهد الطريقللنهضة السودانية الشاملة، حرية سلام وعدالة هو وسيلة وغاية نهائية للثورة السودانية.
الحرية هي أعظم ما يمتلكه الإنسان يقوم عليها التكليف وينتفي بحجرها، وهي إبراز للتنوع وتطويره وابتكار الوسائل المناط بها تحقيق النهضة ولها تجليات عدة ابتداءً من حرية الفرد في التفكير والاعتقاد حتى حرية التنظيم والتظاهر والعمل، لذلك أرى أن الحرية هي المحور الأساسي للثورة السودانية للانعتاق من القيود التي فرضتها دولة الاخوان المسلمين في السودانبإلغاء التنوع وعدم الإعتراف به على كافة المستويات ، والسعيلتوحيد المجتمع وفكره وثقافته وأعراقه قسراً، ثم التغني بهذه الوحدة المزعومة ، وتبعاً لذلك تقومبإلغاء حرية (الآخر) المختلف وحقه في الوجود وحقه في العيش بسلام وحقه الأصيل في الدولة ومواردها بسبب أنه مختلف في شكله او مضمونه عن القوالب التي وصفتها أفكار حسن البنا وسيد قطب، بل يمكنني الإدعاء بأن تاريخ السودان الحديث منذ الإستقلال كان محاولة فاشلة لإلغاء التنوع وإظهار الوحدة المزعومة ويتجلى ذلك في تمجيد الوحدة مقابل التنوع ، بل غياب كلمة التنوع وتخويف الناس بكلمة الخلاف بدلاً عنها، وبلغت صورتها النهائية في ظل حكم الانقاذ التي قامت بتعريف السودان كدولة عربية (لسانياً) وإسلامية (دين الأغلبية) كتعريف يحث على الإنتساب للعرق العربي والحط من الأعراق الإفريقية كما يحط من أي اعتقاد لغير دين الإسلام بذلك تكتمل إركان الدولة الغاشمة وتصادر حرية الناس وتنوعهم، بل كنا نلاحظ الجهد المبذول كثيراً للإنتساب إلى الأسر والقبائل العربية والبحث الدؤوب عن نسب آباء عرب وإهمال البحث عن نسب امهات من ذوات الأنف الأفطس كأكبر ظاهرة للإستلاب مازلنا نعاني منها.
والحرية مرتبطة عضوياً بالسلام فلا تزدهر الحرية إلا في ظل السلام لأنه المنهج الذي تتفاعل به مكونات المجتمع سلمياً بلا قسر وبلا تحقير أو استعلاء فتزدهر ثقافات الناس بتنوعها وتتحاور أفكارهم بكل تناقضاتها وتحترم معتقداتهم على اختلافها، ونتيجة لهذا التنوع والاختلاف تدور عجلة التطور فتحدث النهضة ويتطور المجتمع. فالحرية والسلام يؤسسان لحركة المجتمع وتطوره في ظل العدالة كضمان معياري للحرية والسلام وتلك عبقرية اخرى للشعب السوداني أن جاء شعاره مشتملاً على مطلب العدالة بصفتها الإطار الذي تحفظ فيه الحقوق (رئاسة القضاء – وزارة الداخلية – النيابة العامة ) وتقوم التشريعات على رعاية التنوع وتقف فيه الدولة الديمقراطية على مسافة واحدة من كافة المكونات ظل سيادة حكم القانون ورقابة الأجهزة العدلية وضياع أي ضلع منها يؤدي إلى تفريغ الديمقراطية من محتواها بل وتقويضها والانحطاط إلى درك الشمولية مرة أخرى.
لقد دلت التجربة السودانية على أن تغول الحكومات على الحقوق قد يحدث حتى في ظل الدولة الديمقراطية – حادثة طرد نواب الحزب الشيوعي من البرلمان – لذلك لا بد أن بكون قيادات الأجهزة العدلية قادرة على صيانة القانون بوصفه راعي للتنوع وقادرين على توجيه هذه الأجهزة الحساسة بما يحفظ روح القانون لضمان تحقيق مرامي الثورة ، وقد انتبه أعداء ثورة ديسمبر إلى هذا الأمر فاستماتوا في تفريغ العدالة من محتواها ووضعها في يد المجلس العسكري وللأسف أخطأت قوى الحرية والتغيير بموافقتها على تمكين العسكر من الأجهزة العدلية بل وقاموا بتعديل الإعلان الدستوري بعد التوقيع عليه بالأحرف الأولى ولم يقدموا حتى الآن تفسيرات مقنعة لهذه التنازلات مما يهدد بإجهاض الثورة نفسها إن هي فشلت في بند العدالة.
لقد قام الضباط المعاشيين وأعضاء نادي النيابة العامة والقضاة بإختيار الأشخاص الذين يستطيعون قيادة الأجهزة العدلية وفق مبادئ ثورة ديسمبر ووفقاً لإعلان الحرية والتغيير لكن المجلس العسكري ومن خلفة أذيال النظام السابق نجح في عرقلة تلك الترشيحات ويسعى لوضع الأجهزة العدلية في يد الثقات من أنصار النظام السابق مما يقوض العدالة والتجربة الديمقراطية من جديد.إن تعنت العسكريين وعدم قبولهم تلك الترشيحات يمهد الطريق للثورة المضادة للانقلاب على ثورتنا الوليدة ، لذلك أدعو لابد من الضغط الجماهيري وتنظيم مليونية العدالة حتى نتمكن من تحقيق أهداف الثورة كاملة غير منقوصة.
معتصم مصطفى عباس