مقالات وآراء

 الخرطوم والافيال البيضاء: محاولة تطوير الخرطوم خسارة فادحة

تنفق الدول حول العالم بلايين الدولارات كل عام في مشاريع تطوير المدن، وتشمل مثل هذه المشاريع تشييد وتوسعة شبكات الطرق والمياه والكهرباء وتصريف مياه الامطار والمجاري، حيث يتحمس المسؤولون والمهندسون والسكان كثيرا لهذه المشاريع المكلفة باعتبارها مخرج المدينة الوحيد من ازماتها المتلاحقة، غير انها يمكن ان تكون اهدارا أخرق للمال العام واموال المعونات والقروض إذا لم يراع القائمون بأمر هذه المدن طبيعة تخطيط العمران وهيكل المدينة العام.

تقدم مدينة الخرطوم، عاصمة السودان، مثالا واضحا لهذه المعضلة المعقدة، فبسبب رغبة جميع السودانيين تقريبا في الحصول على قطعة ارض او اكثر في عاصمة البلاد للسكن وتأمين المستقبل، تغولت المدينة باطراد على المساحات الخالية وتمددت في كافة الاتجاهات، وبسبب توالى الهجرات وعدم وجود بدائل للكسب والاستثمار، استعر الطلب على أراضي المدينة والمناطقة المتاخمة، وتكالبت عمليات السمسرة والمضاربات، فازداد معدل التمدد وارتفعت أسعار الأراضي بما يفوق قيمتها، فتضاعفت مساحة الخرطوم الكبرى، والتي تشمل الخرطوم وام درمان والخرطوم بحري، عشرات المرات منذ استقلال البلاد في العام 1956 لتبلغ الآن حوالي 22142 كيلومتر مربع.

أدى هذا النمو غير المرشّد في مساحة الخرطوم الى مفارقات غريبة، فمثلا يتساوى عدد سكان مدينة الخرطوم ومدينة برشلونة، 5.3 مليون نسمة لكل حسب تقديرات هيئة الأمم المتحدة، لكن مساحة الخرطوم الكبرى تعادل مساحة برشلونة الكبرى 5 مرات، وبينما تتضاعف مساحة الخرطوم كل عدة عقود، حافظت برشلونة على ذات مساحتها في المائة عام الأخيرة، كذلك فان عدد سكان إسطنبول اكثر من عدد سكان الخرطوم بحوالي 3 مرات، لكن مساحة الخرطوم تبلغ 4 مرات مساحة إسطنبول، بل ان مساحة الخرطوم الكبرى حاليا تبلغ ضعف مساحة الجمهورية اللبنانية!

مقالات ذات صلة

وقد ساعد على هذا التمدد الأفقي غياب موانع التضاريس والطبيعة، فالخرطوم تقع على سطح منبسط يخلو من المرتفعات والبحيرات والغابات التي يمكن ان تعيق التمدد العمراني، كذلك لم يرغب السياسيون والمسئولون بالمدينة في كبح جماح بيع الأراضي والزحف العمراني بسبب حاجتهم الى تحصيل الأموال السهلة من عوائد بيع وتحويل وتغيير منافع الأراضي، وذلك لمجابهة تكاليف إدارة شئون المدينة المتضخمة، وقد غابت كذلك الرؤية والرغبة في تحقيق قواعد واطر التخطيط العمراني الرشيد، فصارت الخرطوم مدينة بلا نطاق (كردون) تقريبا، وهو عامل حاسم في مجال تخطيط المدن وحساب النمو الحضري وتنظيم الخدمات.

سبّب هذا الزحف العمراني الجائر خللا واضحا في دورات الطبيعة البيئية والمائية (الهيدرولوجية)، فقد غمر العمران الأراضي الواطئة وتداخل مع مجاري السيول القديمة وسد منافذ المياه الى الأنهار والمصارف الطبيعية، وصاحب ذلك اثر مشاريع الطرق العتيدة، وخصوصا الطرق شبه السريعة بمحاذاة نهر النيل، مشاريع الكورنيش التقليدية، وما يحمل ذلك من تعد على حوض النهر ومجال جريانه وفيضه بما يلزم من حفر وردم واضافة وقطع، فحوّل تعاقب هذه الارداء المدينة الى كيان هش يغرق بسهولة امام سورات الطبيعة المختلفة من امطار وسيول وفيضانات، والتي يزداد مدى تأثيرها وحجم اضرارها عاما بعد عام مهما كان حجم الجهد المبذول لدرء آثارها.

فاقم من سوء أوضاع هذه المدينة المنكوبة اعتماد السودانيين نظام وحدات السكن المنفصلة، وهي بيوت تقليدية من طابق واحد او (فيلات) من طوابق متعددة والتي تشغلها في الغالب اسرة واحدة، وهذا النمط من العمران، والذي يعرف باسم النمط (شبه الحضري)، يؤدى الى استهلاك الأرض وانتشار السكان في مساحات شاسعة ومتفرقة، كما يؤدى الى اغراق الفرد والدولة في تكاليف باهظة من اجل انشاء الوحدات ومد شبكات الخدمات، وتعاني دول كثيرة حول العالم من سوءات هذا النمط الحضري، من بينها الولايات المتحدة الامريكية ودول الخليج العربي.

ان شيوع وتجذر النمط شبه الحضري في ارجاء مدينة الخرطوم هو العقبة الكؤود في سبيل معالجة مشاكلها وتطوير مرافقها وترقية خدماتها، فهو مثلا يحول دون الوصول الى كثافة السكان المطلوبة لأنشاء وتشغيل وصيانة وسائل المواصلات العامة والاستثمار في وسائل أكثر تقدما مثل خطوط المترو والترام، كما يؤدى أيضا الى تعذر تحقيق العائد الاقتصادي اللازم لتنفيذ مشروعات الطرق والمياه والكهرباء والصرف والمجاري العملاقة، وبذلك تتحول هذه المشاريع الضخمة الى افيال بيضاء، وهي المشاريع عالية الكلفة قليلة المردود، وما لم يعالج القائمون على امر المدينة هذا الخلل الجوهري فان كل الآمال في تطويرها ستذهب ادراج الرياح والسيول!

عثمان الطيب عثمان المهدى

[email protected]

‫5 تعليقات

  1. هذه المشكلة المُعضِلة تطرق اليها الرئيس نميري في بداية عهده حيث كانت العلاقات مع الاتحاد
    السوفيتي في أوجها ، حيث كانت عدة اتيام تعمل في كافة المرافق و منها الإسكان الجماعي ليكون
    راسياً لا أفقياً لتقديم كافة الخدمات العامة التي يحتاجها المواطن من مواصلات ، مدارس، مراكز
    علاجية، تسوق و كهرباء .
    لم يري ذلك المشروع النور لتبريرات عقيمة مثل البعض يسعي سعية كاغنام و كر جداد و حيشان
    و الادهي باننا لم نتعود علي النوم في شقق !
    و الان ستلتقي الخرطوم بحلفا و الفاشر و كسلا فهنياً لنا العاصمة القومية !

  2. كل السودان الان يعيش فى الخرطوم حتى سكان مدنى رحلوا الخرطوم بعد تدمير مشروع الجزيره و كانت مدنى تنافس الخرطوم فى الموضه و الكوره و الفن و الانسان السودانى بعد تدمير الكيزان للمشاريع و الجبايات التى فرضت على المواطن و التعليم و الصحه صارت بالفلوس و الاقاليم لا توجد بها خدمات من تعليم و صحه الا الخرطوم و لذلك امتدت العاصمه شمالا الى شندى و الجنوب الشرقى الى القطينه و الجنوب الغربى الى ولاية شمال كردفان و لذلك العاصمه صارت وسخانه لعدم الميزانيه للنظافه و اساسا ليس لدينا وحدة تخطيط مدن كل مسؤل يبيع الاراضى لانها مصدر دخل و اذا اردنا ان نحل مشكلة العاصمه الا ان نعمل الاتى :
    1-انشاء عاصمه ادارية جديدة بدل الخرطوم و بتخطيط جديد و قوانين تحدد من يكون من سكان العاصمه الجديدة
    2-تنمية الريف بمشاريع تنمية لارجاع سكان الخرطوم ذات الاعمال الهامشيه

  3. ماف طريقة تمدد رأسي مع الكهرباء والموية القاطعة السنة كلها، معناها الشقق ح تتحول إلى مواقع زبالة من الروائح النتنية التي سوف تنبعث منها.

  4. اصبت كبد الحفيقة والحمد لله انو انا لقيت من يتفق معي في هذا المفهوم وفقك الله- بس الفاس وقع في الراس

زر الذهاب إلى الأعلى