
(1)
نبتدر رؤيتنا التحليلية حول الإصلاح الإقتصادي للسودان من التصدير الذي تفضل به رئيس الصندوق الدولي للتنمية الزراعية المعروف ب(إيفاد – IFAD) في التقرير السنوي للصندوق عام 2018م و الذي يركز علي ما يعرف بالإستثمار في السكان الريفيين، حيث قال: “تتمثل مهمة الصندوق في إنهاء الجوع والفقر في جميع أنحاء العالم عن طريق مساعدة المزارعين أصحاب الحيازات الصغيرة علي زيادة ازدهارهم. وما برحت مهمتنا ملحة كما كانت دوماً. ويعيش ما يُقدر بنحو 736 مليون نسمة على أقل من 1.90 دولار أمريكي يومياً، ويعيش حوالي %80في المائة في المناطق الريفية. وتعثر التقدم في تحقيق القضاء على الجوع في المناطق الريفية. ويعاني حالياً زهاء 821 مليون شخص نقص التغذية المزمن – بزيادة قدرها 34مليون شخص منذ عام 2014م”. إنتهي. يحضرني هذا الحديث و نحن نستمع لتصريحات الوزير حمدوك فيما يتعلق بإصلاح الإقتصاد السوداني و الخروج من معضلته الخانقة التي أقعدت الشعب السوداني من الإنطلاق نحو التقدم و اللحاق بركب الأمم رغم ما لدينا من إمكانات هائلة في الموارد الطبيعية و البشرية. نقول لحمدوك الوزير المهني و الأكاديمي و الخبير الأممي عليك أن تقلب طاولة التخطيط الإقتصادي في السودان بحيث تركز علي إنسان الريف السوداني الذي أصبح في حالة سخرة مستمرة منذ الإستقلال لم نجد سياسة إقتصادية واحدة راشدة و جادة تأخذ بأيدي السكان الريفيين نحو تطوير قدراتهم الإنتاجية في الوقت الذي يعتمد الإقتصاد القومي في التصدير علي منتجاتهم و عرقهم رغم قلته. فنجد الشركات الحضرية تتحين الفرص في كل موسم زراعي شراء إنتاجهم بأبخس الأثمان لتقوم بتصديره لتجني العملة الحرة علي حساب هذا المنتج الصغير. و علي المستوي الداخلي نجده يوفر معظم السلة الغذائية من ذرة و لوبيا وويكة و سمسم و فول … و القائمة تطول لسكان المدن. الحقيقة واضحة كل من يريد أن يقف علي هذه الظاهرة عليه أن يجري مسحا مبسطا من المعروض في الأسواق السودانية نجد 70 إلي 80 % من السلع المعروضة هو إنتاج ذلك المزارع البسيط.
إذن ماهي الرؤية الإقتصادية الراشدة و العاجلة لدعم هذا القطاع المنتج و الذي لا يكلف من المدخلات الدولارية إلا القدر اليسير. هذا القطاع الريفي الآن يحتضن الأراضي و المساحات الساسعة و المتعددة الفرص لإنطلاقة الإقتصاد القومي ليحصد العملة الحرة بأقل التكاليف. كيف يفكر حمدوك رجل التخطيط الذي إنطلق من وكالة التخطيط في الثمانينات؟ هناك أخطاء فادحة أرتكبت في نظام الحكم السابق بتجفيف و كالة التخطيط الإقتصادي التي أرست تجربة تقدر بعشرون عاما ليستعيض عنها بالتركيز علي التخطيط الإجتماعي و الذي هو في الأصل لا ينفك عن التخطيط الإقتصادي. فنقول دولة لا تقوم قياداتها التنفيذية و الدستورية علي التخطيط تعيش متخبطة حتي و لو حققت منجزات بالصدفة لأنه بإمكان أن تصدق الصدفة مرة و لكنها لا تصنع التغيير العلمي المنهجي البعيد المدي.
سلطة التخطيط يجب أن تسيطر علي عقلية الدولة بمؤسساتها لتحقيق إستقرارا في السياسات و إتاحة الفرصة للتقييم المستمر للوصول إلي جودة في إدارة موارد الإقتصاد القومي.
هذا هو التحدي الذي ينتظرنا فلا نقول تحقيق السلام وحده هو الأمل الآن، بل تغيير عقلية تفكير الخط الأول بالدولة أن يكون جادا بإنتهاج منهج التخطيط اليوم قبل الغد لصنع التغيير.
نعود إلي ما أشرنا له فيما يتعلق بالإستثمار في السكان الريفيين، نعتقد هذه الرؤية الإستراتيجية التي تصدرت تقرير الإيفاد للعام 2018م، هي أبلغ رؤية للسودان أن يعتمدها الآن لينطلق الريف السوداني الذي يمثل ما بين 60 إلي 70 % من السكان و هو القوة الإقتصادية الضاربة و المنتجة المهملة في التخطيط القومي. طيلة الفترات السابقة من تاريخ السودان ظل القطاع الريفي لا ينال إلا الفتات من الدعم القومي، الآن إذا أردنا أن ننطلق علينا قلب طاولة التخطيط الإقتصادي ليبدأ الإهتمام بالإنسان المهمش جغرافيا في السودان، فليكن في مخيلة مجلس الوزراء كيف يعيش و يتواصل مثلا سكان أمبرو و كرنوي في الغرب و كيف يعيش سكان طروجي و الليري بجنوب كردفان و كيف تعيش شعوب الأنقسنا بالنيل الأزرق .. إلخ.
سؤالنا التحليلي التالي هل يمكن للشعب السوداني أن يتحمل تطبيق نظرية الإقتصاد المقفول إلي حين؟ هل هناك مقومات تعتمد عليها هذه النظرية؟ تطرقنا لذلك نسبة للتصريح الذي تفضل به د. حمدوك حيث قال: أننا لا بد أن نتخلص من إقتصاد المعونات و الهبات و نصنع إقتصاد منتج ذو كفاءة إنتاجية ذات تنافس إقليمي و دولي. هذا هو التحدي الآخر يحتاج لنظر، هذا التصريح يلقي بتبعات كبيرة علي قدرتنا في التفكير الإقتصادي بحيث يكون لدينا منهج للتغيير الإقتصادي المحكم و الذي يجب أن ينطلق من مقوماتنا الإقتصادية الحقيقية .. نواصل !!
(2)
نذكر القاري ما أشرنا إليه في الحلقة الفائتة، إذ قلنا أن دولة لا تقوم قياداتها التنفيذية و الدستورية علي التخطيط تعيش متخبطة حتي و لو حققت منجزات بالصدفة لأنه بإمكان أن تصدق الصدفة مرة و لكنها لا تصنع التغيير العلمي المنهجي البعيد المدي. فسلطة التخطيط يجب أن تسيطر علي عقلية الدولة بمؤسساتها لتحقيق إستقرارا في السياسات و إتاحة الفرصة للتقييم المستمر للوصول إلي جودة في إدارة موارد الإقتصاد القومي. المطروح الآن في حكومة حمدوك هو ضخ منظومة من السياسات النقدية المستعجلة للخروج من أزمة السيولة في البنوك، فالأمر لا يفهم ببساطة بضخ كتلة نقدية في النظام المصرفي فقط بل القضية تتطلب الفهم الدقيق لماذا تم تجفيف السيولة في النظام المصرفي. هذه ظاهرة إقتصادية جديرة بالوقوف عندها و نحن نعالج أزمة السيولة في النظام المصرفي السوداني. نظام الحكم الفائت له نشاط إقتصادي تراكمي علي مدي ثلاثون عاما، قطعا أن هناك تراكم للنقد مقابل الإنتاج و التصدير طيلة هذه الفترة فلا يعقل فجأة تختفي القيمة الإقتصادية لإنتاج الإقتصاد الكلي من النظام المصرفي بدون مقدمات أو حيثيات مقنعة، فلذلك نعتقد تشخيص هذه الظاهرة تقود إلي فهم جيد لصياغة سياسات نقدية نتفادي بها الأزمة الراهنة بحيث لا تتكرر لا حقا. كذلك مع وجود تشخيص لهذه الظاهرة لا بد من الوقوف علي حجم تسرب العملة بفعل فاعل لأنها جريمة في حق الإقتصاد القومي و الذي هو نتاج تفاعل نشاط كل العناصر المكونة لدورة حياة الإقتصاد القومي طيلة الثلاثون عاما.
المعالجات التطبيقية للخروج من الأزمة الإقتصادية الراهنة ينبغي أن لا تكون حديث سياسي لإستعطاف الشعب السوداني، هنا لا بد من وضع معادلات إقتصادية واضحة لإحكام العناصر المؤثرة في نشاط الإقتصاد الكلي. فعندما نقول مثلا أن سياساتنا الإنتاجية يجب تركز علي رفع حجم الصادر فعلينا النظر بإيجابية علي القطاعات الحيوية في الإقتصاد القومي لدعمها بهذا القدر من الميزانية العامة و تنفيذها بالحرف مهما كانت الظروف و ذلك لتأكيد جدية الوقوف عند حدود الخطة المالية و محددات السياسات الدالة علي ذلك و إلا يكون حديثنا للإستهلاك و الإستعطاف السياسي.
إذن التغيير الحقيقي في بناء الإقتصاد الوطني الذي يعتمد علي قدراته لا بد من الإنتقال في كل الأحوال إلي وضع سياسات إقتصادية تطبيقية محسوبة النتائج و محفوفة بسياسات صارمة للتطبيق.
لذلك كانت رؤيتنا التحليلية في الحلقة الفائتة إنطلقت من الحديث عن الإستثمار في السكان الريفيين. نقول أن الإقتصاد ذو السياسات التطبيقية سريعة العائد عليه أن ينطلق من القطاع الإقتصادي الريفي، لعدة أسباب نذكر منها:
1. الإقتصاد الريفي عمليا الآن يوفر (تقريبا) ما بين 70 إلي 80 % من سلة غذاء المجتمع السوداني و الإقتصاد الذي يوفر الغذاء لمواطنيه قطع نصف المسافة لبناء إقتصاد قوي، فعلي وزارة المالية أن تحسب كم من الدولارات يمكن توفيرها إذا مزقنا فاتورة الغذاء من خلال توسيع قاعدة الإنتاج الريفي لتنويع الغذاء.
2. القطاع الريفي يضم مساحات شاسعة توفر خيارات إقتصادية حقيقية غير وهمية لإنتاج محصولات يمكن أن توفر عملة حرة إذا وجهت إليه ميزانية محددة من الدولة مدعمة بسياسات سعرية و تسويقية فاعلة.
3. القطاع الريفي يمثل القوة البشرية الضاربة ذات الأثر الملموس في ضخ إنتاج زراعي لدعم الإقتصاد الوطني خاصة الشباب، فلا بد أن تحول هذه الكتلة البشرية إلي الإنتاج مع توفير المعينات الحقيقية و الكافية.
4. القطاع الريفي و جدوي التركيز عليه إستراتيجيا يدفع بعملية السلام المستدام في القطاع الجغرافي المهمش و ذلك لغياب التوجهات السياسية و الإقتصادية الراشدة حسب التجارب و الممارسات التي نعيشها.
5. كذلك إستراتيجية الإستثمار في القطاع الريفي في إطار التفكير خارج الصندوق يمكن أن تستقطب أموال كبيرة من الأسرة الدولية التي تهتم بسكان الريف. و القطاع الريفي هو الأقرب لإحتمال تطبيق نظرية الإقتصاد المقفول إذا رأت الدولة تطبيق سياسات إقتصادية تقشفية صارمة محسوبة العواقب لتهيئة الإقتصاد الكلي للإنطلاق بقوة في المراحل المقبلة.. نواصل.
(3)
الآن يقترب السودان من المائة سنة منذ الإستقلال، بمعني نحن جيل قرن الإستقلال لم نذق طعما للرفاهية كتلك التي تعيشها الدول التي نالت إستقلالها بعد السودان. الشعب السوداني كما يحلو للبعض هو معلم الشعوب لصنع التغيير و لكن لا يجيد صناعة ثبات التغيير لمصلحته في الإطار الكلي. حقيقة كون أن السودان معلم الشعوب نعايش هذا القول هذه اللحظات عندما تغير نظام البشير، كثير من المحللين يعتقدون أن يكون هناك تحرك مضاد لإرادة الشعب السوداني كما هو مشاهد في نموذج ليبيا و سوريا و اليمن، بحيث تكون هناك جيوش داخل البلد الواحد أو ربما حكومات أو تكتلات تتجاذب السلطة. هذه التوقعات كلها بحمد الله لم تحدث، إذن هذه هي الميزة التي يمتاز بها أهل السودان علي غيرهم من الشعوب العربية، فهذه نعمة من الله أنعمها علينا أن حفظ دمائنا و أرواحنا و أعراضنا، علينا أن نقابل هذه النعمة بشكره تعالي جل ثناؤه و بل مزيد من الدعوة أن يديم علينا هذا السلوك الحكيم في إدارة خلافاتنا.
و لكن ماذا بعد؟ إنها لحظة التأمل في حال الواقع للثورة الشعبية الرابعة؛ النموذج الذي تقوده قوي الحرية و التغيير و مطلوبات حكومة الكفاءات التي تم تشكيلها لتصميم خارطة الطريق لحكم السودان خلال المرحلة القادمة لمدي ثلاث سنوات إن شاء الله. ليس هناك ما يهمنا في الأمر كثيرا، فقط نريد إبداعا فكريا لإخراج السودان من أزمته الإقتصادية التاريخية. منذ الإستقلال تتعاقب النخب السياسية و العسكرية علي الحكم، و لكن لم نجد نموذجا واحدا إقتصاديا صمم و نفذ بجدية لخلق إقتصادا قويا يتناسب و الإمكانات الطبيعية التي يتمتع بها السودان. الكرة الآن في ملعب حكومة الكفاءات هل تخرج لنا نموذجا إقتصاديا يخرج السودان من العوز إلي سعة موارده المعطاءة و إستغلالها الإستغلال الأمثل. هل بإمكاننا تطبيق سياسات تعزز قدرتنا في تحمل تنفيذ برنامج إقتصادي قائم علي الإستفادة القصوي من إمكانيات إقتصادنا الريفي؟ هل يمكننا العيش علي الدخن و الذرة بأنواعها و القمح المنتج محليا و نقفل الباب تماما علي إستيراد أي غذاء من الخارج لكي نصمم ذوقنا الغذائي علي ما ينتجه إقتصادنا الريفي؟ هل نستطيع التركيز علي الميز الإقتصادية و الإمكانات الطبيعية التي تمتاز بها بعض أقاليم السودان لتكون القائدة و القاطرة لتطور إقتصاد السودان خلال الفترة الإنتقالية؟ هل بالإمكان أن ننتهج مثل هذه الإستراتيجية و نتخلي عن أنانية النخب السياسية لتركيز سبل الرفاهية فقط في الحضر؟ لماذا لا نتعاقد مع شركات عالمية مقتدرة خصيصا لبناء طرق لربط مناطق الإنتاج في القطاع الريفي مع مراكز الإستهلاك الحضري و التصدير مقابل صادرات الإنتاج الريفي لتغطية قيمة التعاقد مع هذه الشركات؟ لماذا لا نقايض قيمة الذهب الخام مثلا في بعض المناطق مقابل بناء مدن بالريف مكتفية من الخدمات الإقتصادية و التعليمية و الصحية و المياه و الكهرباء؟ هل بالإمكان إنشاء مدن ريفية صناعية قائمة علي خام الإنتاج الزراعي المتعدد الأصناف؛ صناعة الزيوت النباتية، صناعة الأقمشة من القطن الطبيعي، صناعة الأعلاف، إنتاج الأسماك من كميات مياه الأمطار المنسابة طبيعيا دون جدوي لإستغلالها .. إلخ. لماذا لا نضع سقف محدد لتمزيق فاتورة القمح نهائيا ليتم الإعتماد مائة بالمائة في غذائنا من دقيق القمح المنتج، أعتقد ذلك ممكن إذا لم تكن لدي بعضنا أجندة إقتصادية مضادة للمصلحة العامة.
نحن نحتاج في هذه المرحلة إلي قيادة إستراتيجية إقتصادية جادة تركز بالدرجة الأولي علي قدراتنا الوطنية بحيث تنفذ مشروعات إستراتيجية بأقل حاجة إلي العملة الحرة في المرحلة الإبتدائية، بمعني علينا تطوير صادراتنا الزراعية و ضخها بصورتها الخام إلي الأسواق العالمية لحصد كمية معقولة من العملة الحرة لدعم مرحلة الإنطلاقة الحقيقية لشراء الآليات الإقتصادية الثقيلة لنتحول إلي إقتصاد القيمة المضافة من خلال توسيع قاعدة الصناعة المحلية. إستراتيجية التركيز علي إقتصاديات القطاع الريفي هي في نظرنا الخطوة الأمثل لبناء إقتصاد وطني قوي في المرحلة المتوسطة و الطويلة ذلك لأن قطاعنا الريفي لا زال بكرا في إمكانياته الإقتصادية لم تستغل بأفق إقتصادي فعال مدعوم بسياسات تسويقية و سعرية ذكية.. مؤكد العالم الآن في حاجة لمنتجاتنا الخام من الزيوت النباتية مثلا، أو منتجاتنا الخام من القطن المطري, الكركدي، الذرة بأنواعها لإنتاج الإعلاف الطبيعية .. إلخ، و في جانب الثروة الحيوانية أيضا هناك فرص واسعة لتصدير إنتاجها خام كالجلود مثلا إذا تعذر تسويق منتجاتها النهائية لعدم قدرتها التنافسية. كذلك لا بد من الإستثمار في البحوث الإقتصادية التي تدعم إستراتيجية تطوير الإقتصاد الوطني كأولوية قصوي، خاصة التركيز في البحوث التي تطور الإقتصاد الريفي و معالجة مشكلاته الهيكلية التي يعاني منها منذ خروج المستعمر من السودان. خلاصة وجهة نظرنا حول تحليل الواقع فيما يتعلق بإصلاح الإقتصاد السوداني لا بديل لهذا الإصلاح إلا بالإنطلاق من تطوير الإقتصاد الريفي.
آدم جاروط خميس
أستاذ جامعي و محلل إستراتيجي
[email protected]