
تحدثنا في الحلقة الماضية عن أزمة السيولة وإفلاس البنوك كأحد أهم التحديات التي تواجه الحكومة الجديدة. وفي هذه الحلقة نتناول تحدي معركة الذهب القادمة لا محالة مع قادة ومليشيات الجنجويد التي تهيمن علي بعض مناطق الإنتاج الغنية بالذهب وتحديدا منطقة جبل عامر، ومع الشركات الأجنبية المتحالفة مع تلك المليشيات، ومع كبار قيادات الدولة العميقة وتعمل بلا هوادة في نهب وتهريب الذهب، ومع أصحاب التعدين الأهلي وسماسرة التراخيص في الولايات التي تتركز فيها أنشطة التعدين الأهلي. وأيضا مع مهربي الآثار في الشمالية الذين ينهبون المغتنيات الأثرية الذهبية والفضية والنحاسية والفخارية للحضارة النوبية تحت غطاء تراخيص تعدين الذهب.
وقبل الخوض في تلك المعركة الوطنية الوشيكة لابد من الاتفاق علي أن العلاقة بين أزمة السيولة ومعركة الذهب علاقة متداخلة من الناحية الإقتصادية تصب مباشرة في قضايا قيمة العملة المحلية وسعر الصرف وتوافر الإحتياطيات النقدية من العملات الصعبة باعتبار أن الذهب في الأساس معدن نقدي نادر يرتبط بالضرورة بإدارة السياسة النقدية للبلد ومن شأنه أن يلعب دور استراتيجي في تعزيز قيمة العملة الوطنية وفي تعزيز مراكز السيولة للقطاع المصرفي وفي جذب جزء مقدر من حجم السيولة المتداولة في سوق النقد العالمي والتي لا تقل في كل مكوناته وأدواته عن 14 ترليون دولار في اليوم الواحد. وعندما نقول أن الذهب معدن نقدي لا نستند فقط إلي حقيقة استخدام الذهب والفضة كمعدن نقدي أو عملة نقدية عبر قرون ضاربة في القدم مرورا بنظامي قاعدة المَعدَنَين وقاعدة المَعدَن الواحد ولكننا نستند فقط إلي حقيقتين في ظل سيادة نظام العملات الورقية هما الأكثر ارتباطا بموضوع هذا المقال وهما:
أولاً: ظل النظام النقدي في العالم منذ إبرام إتفاقية بريتون وودز عام 1944م بعد الحرب العالمية الثانية وحتي انهيار الإتفاقية نفسها في 15 أغسطس 1971م يقوم علي أساس غطاء الذهب حيث أصبح الدولار بموجب إتفاقية بريتون وودز الغطاء الذي يتم بموجبه تبديل كل العملات بالذهب وبسعر (35) دولار للأوقية حيث كان الدولار مغطى بالذهب بنسبة 100% وبقي كذلك حتى عام 1960م. وهذا يعني أن أصحاب الأرصدة من الدولارات إذا أرادوا تبديله بالذهب بالسعر الرسمي (35 دولار للأوقية) استناداً إلى بنود الاتفاقية المذكورة، فإن الولايات المتحدة ملزمة بتأمين ذلك. واستمر نظام النقد الدولي وفقا لذلك، طوال الفترة الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى نهاية الخمسينيات سيراً حسناً. إلا أن الوضع إنقلب رأساً على عقب بنهاية الخمسينيات حيث خسرت الولايات المتحدة من أرصدتها الذهبية في الفترة الممتدة من 1958م إلى 1960م حوالي خمسة مليار دولار وذلك من 22.8 مليار دولار عام 1958م إلي 18.8 مليار دولار عام 1960م وذلك أن كمية الدولارات المتواجدة خارج أمريكا خلال تلك الفترة قد تزايدت بشكل ملحوظ عندما بدأت السلطات النقدية للدول الكبري الأخري في العالم تلمس تراكم العجز في ميزان المدفوعات الأميركي وبالتالي بدأت ثقتها في الدولار تتضعضع مما أدى إلى زيادة الطلب على الذهب. فأصبح الأفراد يتسارعون علي تحويل الدولارات إلي ذهب. كما شرعت البنوك المركزية للدول الكبري في الطلب من الولايات المتحدة الأميركية تبديل قسم من أرصدتها بالذهب وفق الإتفاقية وعمدت إلي سداد العجز في ميزان مدفوعاتها بالدولار فقط دون استعمال الذهب. (راجع: نظام النقد الدولي (4): تاريخ تقويم العملات المؤثرة في العالم، مجلة الوعي (النسخة الألكترونية)، العدد ٢٠٠، تشرين الثاني ٢٠٠٣م). ونتيجة لهذا التسارع لإغتناء الذهب فقد بلغت أزمة الذهب أشدّها سنة 1960م عندما ضاعفت البنوك المركزية طلبها على الذهب من أمريكا ومن سوق لندن أيضاً في الوقت الذي عجزت فيه الكميات الجديدة المستخرجة منه عالميا عن تلبية حجم الطلب المتنامي عليه. وبالتالي انخفض رصيد الدولار خلال فترة الستينات من الذهب من 100% إلى أقل من 20% كما وجدت الحكومة الأمريكية أن أرصدتها من الذهب بدأت في الإضمحلال وانخفضت قيمة عملتها المحلية وأصاب اقتصادها عجز كبير وانخفاض في ميزان المدفوعات وفي الميزان التجاري مع كثير من الدول مما اضطرها، سعيا لإنقاذ الدولار وحماية رصيدها من الذهب، للطلب من فروع البنوك الأمريكية خارج أمريكا أن تنقل ما بحوزتها من دولارات إلى داخل أمريكا وذلك للتخفيف من عمليات استبدال الدولار بالذهب في الوقت الذي كانت تقوم فيه كل من فرنسا وبريطانيا بعمليات استبدال مليارات الدولارات بالذهب بقصد تفريغ الخزائن الأمريكية من الرصيد الذهبي حتى سنة 1968م، مما أوقع الدولار في أزمة مستعصية أضطر معها الرئيس الأمريكي نيكسون إلى إصدار قرار في 15 أغسطس 1971م يقضي بإلغاء تبديل الدولار بالذهب ووضع القيود على كل الواردات الخارجية التي تدخل أمريكا بنسبة 10% مما أدى إلى موجة من الاحتجاجات عالميًّا، وأقفلت البنوك أبوابها، كما توقفت المؤسسات المالية والبورصات العالمية عن العمل وكانت هذه هي نهاية إتفاقية بريتون وودز (راجع: المصدر السابق ذكره).
ثانياً: ظل الدولار برغم انهيار اتفاقية بريتون وودز هو عملة الاحتياطي العالمي لأن معظم المعاملات التجارية بين دول العالم تتم بالدولار الأمريكي، كما تحتفظ كل دول العالم تقريبا بجزء كبير من استثماراتها بالدولار الأمريكي، وأن الدولار يعتبر العملة الأساسية لبيع وشراء النفط، هذا بجانب أن امريكا خرجت من اتفاقية بريتون وودز أساسا لحماية احتياطياتها من الذهب حيث يعتبر احتياطي الذهب لأي بلد حماية لقيمة عملتها الوطنية ومستودع للقيمة وضمان لتخليص التزامات الدفع للمودعين وحاملي الأوراق المالية وتسوية المعاملات التجارية. ولذلك بدأت أمريكا منذ ذلك الوقت في مراكمة إحتياطياتها من الذهب للحفاظ علي هذا المركز النقدي المميز حتي أصبحت اليوم أكبر بلدان العالم التي تحتفظ باحتياطي الذهب حيث بلغت احتياطياتها من الذهب حوالي 8,134 طن متري وهي ما تعادل 74.5% من إحتياطياتها من النقد الأجنبي وهي النسبة الأكبر من بين دول العالم جميعا تليها المانيا بنسبة 69.6%.
وبالتالي نخلص إلي أن الذهب لا يتم تصديريه وإنما يستخدم كاحتياطي نقدي ومخزن للقيمة ولدعم وتقوية العملة الوطنية أساسا ولتسوية المعاملات الدولية ولمواجهة الأزمات المالية الطارئة وفي حدود ضيقة جدا ومدروسة ومخططة ضمن الموازنة المالية المعتمدة للدولة. ولذلك فإن أولي الخطوات والقرارات المصيرية الحاسمة التي تقع علي عاتق الحكومة الإنتقالية هو السيطرة علي قطاع الذهب بالكامل والعمل علي تطوير إنتاجه وتحويله إلي سبائك بعيارات مختلفة والإمتناع عن تصديره والإحتفاظ به كاحتياطي نقدي الأمر الذي يؤدي إلي:
أولاً: تقوية وحماية العملة الوطنية لأنها ستصبح مغطاة باحتياطيات نقدية ضخمة من الذهب.
ثانياً: معالجة أزمة السيولة لدي القطاع المصرفي لأن تلك الإحتياطيات الضخمة من الذهب من شأنها أن تجذب جزء ضخم من حجم السيولة المتداول في سوق النقد العالمي. فوجود احتياطيات ضخمة من الذهب سيسهم في رفع تصنيف القطاع المصرفي السوداني ويجعله جاذبا ويجعل الاستثمار في أدوات تبادل السيولة مع البنوك السودانية استثمار جاذب ذو مخاطر مقبولة لكل بنوك العالم ومؤسساته المالية لأن السيولة التي يتم تبادلها مغطاة باحتياطيات نقدية ضخمة من الذهب.
ثالثاً: سيكون السودان قادرا علي إمتصاص أي أزمات مالية محلية أو عالمية علي المدي المتوسط والطويل بل يمكن استخدام جزء من تلك الإحتياطيات (في حدود ضيقة وضمن الموازنة) لحل أزمات الغذاء الطارئة أو العابرة كأزمات الخبز علي سبيل المثال حيث يمكن استخدام الذهب في استيراد القمح من أي دولة في العالم وبتكلفة منافسة جداً.
رابعاً: سيكون الإقتصاد السوداني جاذبا للاستثمارات طويلة الأجل وفقا لخطة التنمية المعتمدة والتي تصب في مصلحة الشعب.
خامساً: ولكل النقاط أعلاه ستنعكس تلك الإحتياطيات النقدية من الذهب علي قيمة العملة الوطنية والتي ستصبح علي المدي الطويل من العملات القوية جدا التي تضارع مثيلاتها من دول الجوار العربي والإفريقي وبعض العملات الأوروبية والأسيوية الأخري.
ولكن أين نحن من كل هذا؟ فما يدور في قطاع التنقيب عن الذهب سواء كان تنقيب حديث أو تنقيب تقليدي هو في الحقيقة فوضي ومسرح عبثي كبير لجرائم من الدرجة الأولي ترتكب عينك يا تاجر في حق الشعب وفي حق تراثه وفي حق أحد أهم ثرواته القومية التي عرف بها السودان منذ القدم. وفيما يلي نشير إلي أهم مظاهر هذه الفوضي وهذا العبث.
أولاً: لقد أصبحت قوات الدعم السريع قوة عسكرية واقتصادية كبري كمزيج من الميليشيات القبلية والمشاريع التجارية. فمنذ أن تم اكتشاف الذهب في منطقة جبل عامر بولاية شمال دارفور عام 2012م واشتداد التنافس بين حميدتي وموسي هلال في الوقت الذي كانت حكومة المخلوع البشير تسعي سعي محموم لانتاج الذهب لمواجهة الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي واجهتها بعد انفصال الجنوب وضياع 75% من إيرادات النفط، توافد عشرات الآلاف من الشباب على تلك المنطقة لتعدين الذهب بمعدات وأساليب بدائية. حتي استولت ميليشيات موسي هلال بالقوة على المنطقة، وقتلت أكثر من 800 شخص من قبيلة بني حسين، وباتوا أثرياء من خلال تعدين الذهب وبِيع بعضه للحكومة بأسعار أعلى من سعر السوق بالعملة السودانية لأنها كانت متلهفة للحصول على الذهب الذي يمكن بيعه في دبي بالعملة الصعبة. وفي نفس الوقت تم تهريب كميات كبيرة من الذهب عبر الحدود إلى تشاد، حيث تم تبادلها بشكل مربح مقابل عملات صعبة وأيضا بطريقة تنطوي على شراء سيارات مسروقة وتهريبها إلى السودان (العربي نيوز 21 يوليو 2019م). وبعد اعتقال هلال من خلال قوات الدعم السريع بعد أن تحدي الرئيس المخلوع البشير ومنع الحكومة من الدخول إلي مناجم جبل عامر استولت قوات الدعم السريع علي أكثر مناجم الذهب انتاجا وربحية وأصبح حميدتي يمتلك بعض المناجم وأنشأ شركة تجارية تعرف باسم الجنيد. وبالتالي ومن خلال الذهب ونشاط المليشيات المعتمد رسميا من الدولة آنذاك، أصبح حميدتي يتحكم بجزء ضخم جدا من أكبر ثروات السودان القومية يجني من خلالها أموالا لا طائل لها ينفقها على قواته وعلي أمنه الخاص وعلي أنشطة تجارية أخري دون أي مساءلة. وأصبحت شركة الجنيد، التي يديرها شقيقه، مجموعة ضخمة تغطي الاستثمار والتعدين والنقل وتأجير السيارات والحديد والصلب والاستثمارات العقارية والتبادل التجاري في مجال الذهب وغيره من المجالات مع شركات روسية وغيرها من الشركات الأجنبية. وعندما سقطت حكومة المخلوع البشير أصبح حميدتي واحدا من أثرياء السودان ضمن شبكة ضخمة من المحسوبية والصفقات التجارية والأمنية السرية. وفي الوقت الحالي أصبح حميدتي جزء من السلطة الحاكمة وهو يحكم السيطرة علي هذه المنطقة الثرية بالذهب من جبل عامر وتشكل بالنسبة له ولأسرته وقواته مصدر أساسي للثروة والسلطة. فهل تستطيع الحكومة، في سعيها للهيمنة علي قطاع الذهب بأكمله باعتباره ثروة قومية تحتاجها البلاد لتعزيز احتياطياتها النقدية وحماية عملتها المحلية بما يخدم مسيرة الإصلاح والتنمية الاقتصادية، لمواجهة حميدتي وفرض سلطة الدولة علي منطقة جبل عامر؟ إنها معركة لا محال قادمة وهي جزء من معارك تضارب المصالح بين مستقبل السودان ومستقبل شعبه وبين مصالح أركان الدولة العميقة التي لا تزال تهيمن علي كل مفاصل الإقتصاد ولن تستسلم بسهولة وستظل جزء أصيل من قوي الثورة المضادة. والإجابة علي هذا السؤآل الصعب في تقدير الكاتب أن الحكومة المدنية الإنتقالية تستطيع فرض هيمنتها ليس فقط علي قطاع الذهب بل علي كل ثروات الشعب القومية وتوظيفها في مصلحته إذا اعتمدت طريق المواجهة السلمية عبر إعادة هيكلة أجهزة الدولة وتصفية وتفكيك كل مظاهر الدولة العميقة واستندت في مسيرتها ومعركتها الطويلة علي طاقة الشعب الثورية وإرادته بكل شبابه وشاباته ونقاباته ولجان مقاومته ومنظماته المدنية وأحزابه الوطنية واعتمدت مبدأ الشفافية والبدء باتخاذ القرارات الصعبة في مواجهة الدولة العميقة.
ثانياً: وعلي صعيد التعدين الأهلي، فعلي الرغم من أن لائحة تنظيم التعدين التقليدي الصادرة عن وزير المعادن في عهد النظام المخلوع استنادا إلي المادة (26) من قانون تنمية الثروة المعدنية والتعدين لسنة 2007م التي تنص علي الالتزام بالضوابط الأمنية وسلامة المواطنين والعاملين، وعلي الزام الأشخاص الذين يمتهنون مهنة التعدين التأمين لدى شركات التأمين ضد كافة الأضرار التي قد تحدث لهم كشرط لمنح رخص التعدين، والإلتزام بأحكام قانون العمل لسنة 1997م وأي تعديلات لاحقة عليه فيما يتعلق بعمل النساء والأطفال، وعلي معاقبة كل من يخالف أحكام اللائحة الواردة في المادة (24) من قانون تنمية الثروة المعدنية والتعدين لسنة 2007م. ألا أن هذا كله مجرد حبر علي ورق لا وجود له علي أرض الواقع وكل ما يهم اللجان التي تمنح التراخيص في الولايات حتي تاريخ اليوم هو مص دماء المُعَدِّنِين بالجبايات التي لا طائل لها وتحصيل الرسوم الولائية والسيادية وتسهيل شراء انتاج المنقبين من الذهب بثمن بخس من قبل بنك السودان أو من قبل تجار الحلي والمجوهرات بطرق ملتوية غير مشروعة عبر سماسرة معروفين داخل تلك اللجان نفسها وهي لا تهتم لمصيرهم وسلامتهم وصحتهم. فقد جاء في موقع النيلين بتاريخ 29/05/2014م عن مدير مستشفى أبوحمد الدكتور فاروق مدني عن الوضع المزري للمستشفى الرئيسي الذي يرتاده المعدنون عن الذهب بمدينة أبوحمد بشكل يومي وعن الحالات المستعصية التي يستقبلها المستشفى من المعدنين بسبب الوبائيات واستخدام الزئبق وانهيار الآبار مبينا أن استنشاق الزئبق لفترات طويلة يقضيها العاملين بمناطق التنقيب عن الذهب يسبب السرطان والفشل الكلوي ورغم ذلك لا يوجد أخصائي باطنية في المستشفي وتفتقر المعامل لأبسط المستلزمات الطبية فضلا عن أن كل مرضي التنقيب عن الذهب يستقبلهم عنبر واحد بائس به 20 سرير فقط علما بأن عدد المنقبين في تلك المنطقة حسبما جاء في نفس الموقع المذكور قد بلغ 250 الف شخص أي بمعدل سرير واحد لكل 12,500 شخص. هذا غير الآلاف من العاملين (من النساء و الأطفال) في مجال بيع الأطعمة والمياه والشاي والقهوة وغيرها من الخدمات التي يحتاجها المعدنون وهم معرضون لنفس الأمراض.
ثالثاً: سن القوانين ووضع الللوائح دون أن تكون هنالك بنية متكاملة صالحة لممارسة نشاط التعدين عن الذهب هو في حد ذاته جريمة لأن المقصد من القانون هو تحقيق العدالة التي تقتضي في المقام الأول توفير الظروف الإجتماعية العادلة التي تمنع أسباب مخالفة القانون أولا ثم بعد ذلك تطبق القوانين التي تنظم تلك الظروف وتحكم العلاقات التي تربط بين كافة الأطراف التي تتعامل فيها. فليس من العدالة مثلا أن تمنع عمالة الأطفال وتوضع شروط خاصة لعمل المرأة في حين أن الدولة لا توفر التعليم المجاني والعلاج المجاني وتضرب برعاية الطفولة والأمومة عرض الحائط ولا زالت مظاهر سياسة إفقار الشعب ماثلة مما يدفع الأطفال و النساء نحو ذلك الجحيم لكسب لقمة العيش.
رابعاً: عدم وجود حصر وتحديد دقيق وعلمي لمناطق التنقيب عن الذهب بحيث تظل بعيدة عن المناطق الآثرية يعتبر فوضي بل جريمة كبري تتمخض عنها عدة جرائم. فقد ثبت من خلال العديد من التحقيقات أن الكثير من الذهب المكتشف من بعض المنقبين هو في حقيقة الأمر عبارة عن آثار تاريخية في شكل أواني ومشغولات ومجوهرات من الذهب والفضة والألمونيوم والنحاس والحديد والفخار. كما انتشر النشاط المنظم لمافيا سرقة وتهريب الآثار التي دخلت تلك المناطق برخص معتمدة من سماسرة التراخيص للتنقيب عن الذهب وفي أيديهم خرط ومخططات لمناطق الآثار ولمدافن ملوك حضارات النوبة القديمة التي تختزن كنوزهم من المعادن النفيسة. وعلي الرغم من انتشار حرس الحدود في المنطقة ومن أن وزارة الإعلام و الثقافة والآثار بولاية الشمالية تنشر ما يزيد عن 328 من قوات الشرطة على المواقع الاثرية فى كل من صاى، كرمة، دنقلا العجوز، نورى وسيسا، جبل البركل، أرقو، تمبس، سيسبي، صلب، صادنقا، جزيرة صاي، سمنة، ومعابد النوبة السفلى إلا أن عمليات النهب مستمرة تحت مظلة وغطاء رخص التنقيب عن الذهب وأن الغالبية العظمي من تلك القوات هم في الحقيقة جزء لا يتجزأ من تلك المافيا.
خامساً: منح تراخيص للتنقيب عن الذهب قبل تطوير مناطق التعدين لتصبح صالحة للوجود الآدمي ولممارسة النشاط الإقتصادي الصناعي والتجاري والخدمي يعد أيضا فوضي وجريمة كبري. فمن واجبات الدولة دعما وتطويرا لقطاع التعدين توفير خدمات المياه والكهرباء وتمهيد الطرق المؤدية لمناطق التعدين وتعبيدها وتوفير شبكات الاتصالات الهاتفية وتوفير الآليات ومدخلات الإنتاج اللازمة لعملية التعدين وتوفير المراكز الصحية ومراكز الطوارئ وأجهزة الإرشاد والرقابة وضبط الجودة والأمن والسلامة وكافة المؤسسات التي تسهم بصورة أو بأخري في استكمال الدورة الإقتصادية لهذا النشاط بنجاح بما في ذلك أفرع البنوك التي يتم من خلالها بيع الذهب المنتج لبنك السودان وفق آليات واضحة يتحدد فيها سعر الذهب وفقا لأسعاره السوقية العالمية وليس وفقا للأسعار المجحفة التي يحددها البنك المركزي أو كبار الصاغة حسب تقديراتهم الذاتية وأهدافهم الرامية لمراكمة ثرواتهم مما أدي إلي تزايد نشاط تهريب الذهب إلي الخارج. وبالتالي فإن النظام المخلوع هو المسئول الأول عن أرواح آلاف المنقبين الذين فقدوا حياتهم أو أصيبوا بأمراض مستعصية نتيجة لتلوث البيئة في مناطق التعدين وعدم صلاحيتها للوجود الآدمي. وتقف حالة سوق كركار المجاور لقري ابوراقة والخناق بالشمالية شاهدا علي ذلك حيث الغبار الكثيف الملوث الذي يخرج من طواحين الصخور التي لا تتوقف مطلقاً وحيث يوجد ما يقارب 20 الف شخص في تلك المنطقة يقضون حاجتهم في العراء وتنتج عنهم كميات ضخمة من البقايا ممتدة ومتناثرة علي وجه الأرض بشكل مثير للغثيان في كل الاتجاهات المحيطة بالسوق وتنتشر جبال النفايات الجافة واللينة من بقايا الطعام والمياه الملوثة وسط السوق وعلي أطرافه وهي تتزايد وتعلو كل يوم لعدم وجود نظام لترحيلها من قبل المحلية والولاية.
سادساً: السماح بقيام مطاعم ومتاجر ومقاهي في تلك المناطق في ظل هذا الواقع المؤسف دون أن تكون متوافقة مع معايير الصحة والسلامة هو بالتأكيد جريمة لأن هذه المطاعم والمتاجر والمقاهي ملوثة بنسبة 100% وحالة سوق كركار المأساوية تؤكد ذلك.
سابعاً: وبما أن التعدين كنشاط إقتصادي معقد له علاقة بباطن الأرض وبالخصائص التي تميز كل معدن عن الآخر وبالتالي اختلاف المعالجات اللازمة لكل معدن عن الآخر. فإن استمرار الدولة في منح رخص التعدين دون أن تكون لها بنية أساسية لتوفير التعليم والتدريب المهني في مجال التعدين بشكل عام والذهب بشكل خاص يعتبر أيضا جريمة. فقد اعترفت وزارة المعادن في ظل النظام المخلوع كما جاء في بوابة النيلين بتاريخ 2 يونيو 2011م بوجود سلبيات صاحبت عملية التنقيب الأهلي باستخدام مادة الزئبق ذات الآثارالصحية الخطيرة على المنقبين، بجانب التأثيرات السلبية والتغيرات التى تحدث فى التربة اثناء التنقيب نسبة لعدم معرفة المنقبين بعلم الجيولوجيا، الامر الذى جعل الآبار التى يصل عمقها الى اكثرمن 20 متراً تنهار ويموت من بداخلها. فالمؤهل العلمي أو المهني للعاملين في هذا الحقل يجب أن يكون شرطا أساسيا للعمل في قطاع التعدين. فتطور صناعة التعدين في بلادنا تستلزم الاستثمار أولا في الكادر البشري من خلال كليات متخصصة في الجامعات والمعاهد العليا ومن خلال مراكز تدريب مهني متخصصة في هذا المجال داخل السودان وخارجه وتشجيع ودعم البحث العلمي والاطلاع علي تجارب البلدان المتقدمة في هذا المجال والاستفادة منها.
هذا الوضع الفوضوي المذري لواقع التعدين الأهلي عن الذهب لا ينبع فقط من خواء وجهل من كان يحكم بلادنا ولا يزالون يحكمونا من خلال الدولة العميقة وشبكاتها المعقدة الممتدة في كل مفاصل أجهزة الدولة وقطاعاتها الإقتصادية وإنما من كونهم عصابة وتجار ولصوص يعلمون ماذا يفعلون عن ظهر قلب ولا يهتمون لشعبنا ولا لثرواتنا ولا يهمهم في المقام الأول والأخير غير اشاعة الفوضي في هذا القطاع الهام لتكون غطاءا للنهب والتهريب.
الهادي هباني
[email protected]
المقتنيات الأثرية. المقتنيات الأثرية. المقتنيات الأثرية. هذا قبل إكمال قراءة الموضوع.
كفيت ووفيت أستاذنا الرائع، … هذا المقال التحفة، إذا قرأه كل سوداني حصيف لأدمغتهم عيناه، وتفطرت دماً في حب هذا الوطن الذي كان بشعبه إسطورةُ أفريقيا الجملية، ‘حسب ماااا عبر عنها ملك إثيوبيا العظيمة هيلآسلاسي، ( المارد الأفريقي قادم ) .
انتو بتجيبوا صورة موسي هلال ليه مع كل بوست عندو علاقه بالسيوله او الدةلار… الحاجه دي محيراني والله
انتو بتجيبوا صورة موسي هلال ليه مع كل بوست عندو علاقه بالسيوله او الدولار… الحاجه دي محيراني والله
شكرا يادكتور … مقال دسم ومفيد وقيم وعلمى كالعادة … ونتمنى ان يستفيد منه القائمون على السلطة فى البلد الآن … وان يستفيدوا ايضا من العلماء والخبراء ذوى الكفاءة والخبرة والأفكار النيرة أمثالك … إذا كانوا يريدون لهذه البلد ان تتقدم وتتطور ونلحق بركب الأمم التى سبقتنا كثيرا …
شكراً يا هادي لدق ناقوس الخطر
نأمل أن يصل صوتك لمن بيدهم اتخاذ القرار
فهذه سرقة صريحة لماضينا ممثلاً في آثارنا وحاضرنا ومستقبنا ممثلاً في ثرواتنا المعدنية