أخبار مختارة

حول الوديعة الدولارية، دولار الكرامة، وما شاكلها من القَرَعَة  الممدودة

في شأن تعضيد الاقتصاد المدني ودعم الحكومة المدنية الانتقالية (5-100)

حسين أحمد حسين

لعناية وزير المالية والاقتصاد الوطني، وأنا هنا أستعير لغة السيد الإمام الصادق المهدي،  لأقول لك: تحويلات المغتربين لا يمكن اجتذابها بنظام “نقطة الحِنَّة وكشف الفُراش” ويجب أن تسبقها العديد من الإجراءات المؤسسية المُحكمة.

ودعني أقول لك من الآخر: إذا كنتَ ترغب في أن يكون كل موظفي وزارة المالية (في الداخل والخارج) في خدمتك فأهلاً وسهلاً؛ فقط كُن متناغماً مع رؤية د. حمدوك التقدمية لخلاص الوطن. وإذا كنت تود أن تطبق فينا “اقتصاد سيدك”، كما قال بروفسير علي عبد القادر علي (نتمنى له كامل الشفاء وعاجله) من قبل لدكتور بشير عمر في النصف الثاني من ثمانينات القرن الفائت بدار الإقتصاديين والإداريين، فوزارة المالية بها من الخبراء التقدميين القادرين على الأخذ بيدِ الوطن إلى برِّ الأمان. وبالتالي إذا كنت تريد منا  – نحن المغتربين “وديعة دولارية”، فلنا مطلوبات.

مطلوبات الوديعة الدولارية

1- لابد أن يكون للحكومة المدنية الانتقالية قضاءاً مستقلاً وقائماً بذاته المستقلة عن كل المؤسسات التنفيذية والسيادية والتشريعية وغيرها؛ استقلالاً يساعد القائمين على الأمر في تصفية وتفكيك الشمولية التى فرختها الانقاذ، لتتم تهيئة الوطن لولادة الديموقراطية والحريات العامة وحرية التملك ودولة القانون ودولة المواطنة ودولة المؤسسات، واحترام العقود. ولا نشك، ولو لِلَحظةٍ واحدة، في أنَّك تعرف أنَّ كلَّ ما جاء بعاليه هو من شروط صحة التنمية (Masaki and van de Welle 2014).

غير أنَّه من المؤسف أنَّ الرأسمالية الخراجية التي انتخبتك للفترة الانتقالية لا تحفل بالديموقراطية، إذْ ما نالته بالديكتاتورية لم (ولن) تنله بالديموقراطية التي تمنع استغلال الإنسان لأخيه الإنسان؛ والتى تعنى تجانس/توازن/عدالة وديموقراطية واستدامة العملية الاقتصادية، وتوزيع العائد منها بشكلٍ عادلٍ متناسبٍ مع استحقاقات عوامل الإنتاج. ويكفي هذه الرأسمالية  من الإثم ما تُحيكه من تآمر على الفترة الانتقالية بالخارج الآن.

كما أنَّ المؤسف أكثر أنَّ برنامجك العبر – ولائي المطروح لتطوير مناطق الصمغ العربي هو برنامج لدعم ناخب حزب الأمة في المقام الأول (في مناطق نفوذ حزب الأمة تلك) في إطار ذات الرأسمالية الخراجية والعقل الريعي، من غير أيِّ تطوير للسعات الإنتجاية لاقتصاده هناك.  إذ خلا برنامجك هذا من أيِّ إشارة للمشروعات التي يمكن أن تخلق قيمة مضافة لاقتصاد الهامش في تلك المناطق. وكأنِّي بك تخشى أن يتحول عمال طَقّ الهشاب إلى صنايعة يتناغمون مع حزبٍ آخر قد يرث ولاء حزب الأمة في مقبل الأيام؛ ونرجو من السيد د. عبد الله حمدوك الانتباه لذلك.

2- وإذا كنتَ ترغب في ودائعنا والودائع الأخرى يا سعادة وزير المالية، فعليك قبل كلِّ شئ أن تساعد حمدوك في تسمية محافظ للبنك المركزي ليس له صلة بالنظام السابق. وعلى د. حمدوك قبل كلِّ شئ (وعلى الأقل) أن يغربل وزارات القطاع الاقتصادي وبنك السودان المركزي والجهاز المركزي للحصاء من عناصر النظام السابق ليكون هناك تناغم في تنفيذ البرنامج الاقتصادي للفترة الانتقالية.

وذلك لأنَّ الفساد، وتعقيد الإجراءات جراء هذا الفساد، وغسيل الأموال، والمخدرات، والارهاب والإتجار فى البشر وأعضائهم، وتجارة الجنس وغيرها (أى عوامل انعدام الأمن)، كلها عوامل منفرة للأموال القادمة من الخارج؛ سواء من المغتربين أو المستثمرين الأجانب.

3- تآكل الاحتياطى النقدى من العملات الصعبة وبالتالى انكشاف الاقتصاد القومى، الذى يصعب معه مقابلة واردات المجتمع والدولة من السلع والخدمات ولو لستة أشهر، ويصعب معه أيضاً الوفاء بالالتزامات الخارجية (تحويل أرباح الشركات الأجنبية العاملة فى السودان، والوفاء بأقساط الدين الخارجى، العلاج بالخارج، الدارسين بالخارج، بعثات السودان الدبلوماسية، إلخ)، لهو من أهم المشاكل المضرة بالعملية  الاستثمارية بالنسبة للمغترب والمستثمر الأجنبي حتى إن وصلتك ودائعُهُ من قبيل الهبات.

4- تذبذب معدلات التضخم وارتفاعها، هما من أعدى أعداء “الوديعة الدولارية” وكافة التحويلات والاستثمارات الآتية من الخارج (المغترب والمستثمر الأجنبي). وتذبذب معدلات التضخم أضر على الإقتصاد القومى من ارتفاعها كما تعلم يا سيادة الوزير، وذلك لجبن رأس المال (خاصةً الأجنبى) الذى عادة ما يكون شديد الحساسية تجاه توقعات عدم الاستقرار. ودونك الشركات الصينية والهندية والماليزية وغيرها التي بدأت تخرج من السودان في الأسابيع الفائتة.

وقطعاً سيزداد الأمر سوءاً بسبب تردد الحركات المسلحة من الانضمام لحكومة حمدوك،  وضبابية مواقف الشق العسكري في مجلس السيادة تجاه استحقاقات الدولة المدنية، وغيرها.

5- فقدان الثقة فى النظام المصرفى (أي انهيار النظام المصرفى) يشكل عقبةً كؤوداً للأموال الآتية من الخارج؛ من المغتربين وغيرهم طالما مَدَدْنا القَرَعَة للـ “الوديعة الدولارية”.

فمثلاً، إذا كان تغيرا العملة السودانية الأول والثانى قد أدَّيا إلى أن يكون 85% من حجم النقود خارج النظام المصرفى على حد قول المدير العام للبنك السودانى الفرنسي، فإنَّ الإجراءات المتهورة التى قام بها الرئيس الساقط لمنع المودعين من سحب ودائعهم؛ وبذلك انحازَ لملاَّك البنوك على حساب المودعين، قد أطلقت على النظام المصرفى (الذى لا تتجاوز فيه أعداد الحسابات الجارية وغيرها المليون حساب بحسب د. النور حمد) رصاصة الرحمة، ودخول فلول الجنجويد وبعض أفراد القوات المسلحة إلى بنك السودان وأخذ العملة منه بالقوة قبيل عيد الفطر المبارك قد حررت شهادة وفاته؛  الأمر الذي جعل بعض الدوائر تفيد بأنَّ 96% من الكتلة النقدية الآن خارج النظام المصرفي.

وإذا كان الأمر كذلك (أي أنَّ الحكومة فاقدة تماماً للسيطرة على الكتلة النقدية)، فما الذي يجعل السيد وزير المالية على هذه الدرجة من اليقينية في أنَّ المغتربين سيضعون أموالهم في نظام مصرفي غير موجود أصلاً وجل أعضائه فاسدون، وفوق ذلك محاط بكل ذئاب الفساد في السودان.

6- النظام الساقط جعل السودان في حالة فقدان للهوية السياسية والخط السياسى العام المتمحور حول مفهوم عدم الانحياز، بتقافزِهِ بين الأحلاف، وبالتالي فقدان الدبلماسية المهنية، والاعتماد على دبلماسية مخاتلة وبذيئة سياسياً، الأمر الذي أدَّى إلى نوع من الحالة الضبابية التى تحجب المستثمر القادم من الخارج (مغترب وغيره) عن القراءة الصحيحة للواقع واستقراء التوقعات (وكما تعلم أنَّ الاقتصاد علم قائم على التوقعات). وبالتالي في هكذا واقع، فإنَّ المعلومات تكون مرتبكة ومربكة ومنافقة.

وللأسف ذات المشهد يتكرَّر الآن بالتعقيدات التي تبنتها لجنة البرهان الأمنية قبل تكوين الحكومة المدنية بانحيازها لحلف السعودية علي حساب الحلف القطري بعد أن رشاها الأول  بثلاثة مليار دولار. بل ويضغط الآن الشق العسكري في الحكومة المدنية على التناغم مع حلف السعودية؛ الأمر الذي أدي لارتباك وزيرة الخارجية السودانية؛ أتستعير رؤية حمدوك أم الشق العسكري للرد على صُحافيي العالم السائلين عن موقف الحكومة من الأحلاف في الإقليم؛ وتلك عين البذاءة السياسية التي وزيرتنا – التي لا نشك في قدراتها مطلقاً – في غنىً عنها.

7- تحدث معاليكم بأن “الوديعة الدولارية” مستردة بعد ثلاث سنوات؛ حسناً. فما هي ضماناتك لذلك في ظل بِني تحية متهالكة، ونظام مصرفي غير موجود، ودولة في حالة انكشاف اقتصادي وبالتالي عاجزة عن السيطرة على الكتلة النقدية والتضخم؟ ماهي ضماناتك للاستقرار السياسي في ظل دولة منذ أنِ ادَّعت قواتها المسلحة الانحياز للشعب السوداني قامت دولتها العميقة والفاسدة المفسدة بخمسة انقلابات عسكرية في ظرف تسعة أشهر كما تقول لجنة البرهان الأمنية ذات نفسها؟ ما هي ضماناتك للاستقرار السياسي وعناصر النظام السابق الفاسدة تسيطر على كل مفاصل الاقتصاد في البلد بما فيها بنك السودان الذي سوف توضع فيه الوديعة؟ ماهي ضماناتك والحكومة التي يُفترض أنَّها مدنية، مشلولة ومغلولة اليد برغبات عسكر ولاؤهم للنظام السابق (لأكل تُراثه) أكثر من ولائهم للدولة المدنية التي جزءٌ مِمَّن يدَّعون الانحياز إليها يتآمرون عليها مع أحلاف إقليمية في القاهرة الآن؟ وختاماً، في ظل هكذا واقع ما هى ضماناتك لاستثمار هذه الوديعة استثماراً منتجاً ومُحفزاً لِلعُرى الأمامية والخلفية للاقتصاد القومي (Forward backward linkages)؟

لعمري أنَّ الضامن الوحيد يا سيادة الوزير هو (أن تكون الوديعة الدولارية بالخارج) ما طرحناه علي حكومتكم في المقال الرابع من هذه السلسلة، وهو – مع الإجراءات الأخرى – إنشاء بنك السودانيين العاملين بالخارج (Sudanese Expatriate Bank – SEB) في الخارج الحر الديمقراطي المؤسسي، وبفرع رئيس بالداخل. على أن تساهم الحكومة فيه باستئجار مقر لمدة سنة واحدة في إحدى الدول الغربية. وهذا الايجار مسترد القيمة من أرباح البنك في الخارج؛ دعك عن أرباح فرعه الرئيس المحتملة بالداخل.

فالشاهد أنَّ الحكومة هى التى مناط بها وجوباً قاطعاً أنْ تدعم مواطنيها وليس العكس. وبالتالي فكرة أنَّ الشعب السوداني يعمل  للحكومة “كَشِف” فكرة مخجلة وغير موفقة ومنفرة للاستثمار الأجنبي من الأجانب والمغتربين بدرجة أكثر مما تتصور، لأنَّها ببساطة تنم عن حالة مزمنة من الهدر المؤسسي.

خاتمة

بنك السودانيين العاملين بالخارج هو الحل.

حسين أحمد حسين / المملكة المتحدة
[email protected]

‫6 تعليقات

  1. فكرة إنشاء بنك المغتربين فكرة صائبة وإن شاء الله يكون لها مردود ملموس على نهضة اقتصاد البلاد

  2. بامانۃ وللاسف الشدید اصاب الکاتب کبد الحقیقۃ وبقدر ما ھی مؤلمۃ وصادمۃ الا ان الحل الذی قدمہ الکاتب قد یکون مخرجا
    حدیثہ عن ان دولۃ الفساد ما زالت تعمل وبکامل طاقتھا صحیح فاذا اردنا الحلول فعلینا الکف عن محاولۃ تجمیل القبیح

  3. مقال متشائم و متحامل جدا على الوزير الذي القيناه في البحر و قلنا له لا تغرق .. السؤال هل مسؤلية حماية الفترة الانتقالية تقع على عاتق وزير المالية حتى يحتاج ضمانات لاسترداد الوديعة بعد ثلاث سنوات اذا حدث انقلاب سنكون فقدنا كل السودان و ليس وديعتنا نحن المغتربين السؤال الاهم هل تستطيع مدخرات المغتربين في حال تم تجميعها بهمة و صدق في حل ضائقة الوطن 00 الاجابة نعم بعد مراعاة اعداد المغتربين …. بلا تنظير كتير اذا اردنا ان تكون لنا بلد نعود اليها في يوم من الايام يجب ان ندعم و ندعم حتى يقف الوطن على قدميه 00 ضحى الشهداء بارواحهم و نحنا خايفين نخط لينا قؤشين في البنك المركزي لانو يمكن تضيع و يحصل انقلاب عيب تاني بطلو التنظير الكتير و تعاملوا مع الواقع دا على انه اخر امل للسودان يا ننجح يا ضاعت البلد فلا تفكروا كتير ادعموا و ادعموت من اجل ابنائنا ليعيشوا غدا افضل

  4. اهم ترياق ضد الانقلابات و المؤامرات على الثورة هو قدرة الحكومة الانتقالية على الاستجابة لمطلوبات الثورة و حل الضائقة الاقتصادية و ازالة اثار النظام البائد ، و كل ذلك لن يتم في ظل وضع اقتصادي مترد و عطالة الشباب، و عليه فدعم الحكومة اقتصاديا من اوجب الواجبات، فالشباب المتوثب لحماية الثورة سيتخلى عنها اذا طالت امد المعاناة و العطالة.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..