مقالات متنوعة

استراحة الجمعة: سيد الحيشان التلاتة

لمحت بين طيات الأسافير صور لمنزل عرضه ثلاث أمتار.. نعم ثلاث فقط.. وهو ممر بين منزلين نجح صاحبه في تحويله إلى بيت طولي (زي القطر ) به غرفة نوم وغرفة استقبال وصالون.. وجلسة عائلية.. وكمان حديقة صغيرة تخلب الألباب.. تذكرت أنني قبل فترة وقد كنت أسترق السمع لاثنين من زملائنا من أبناء العاصمة القومية بالميلاد (وليس بالنزوح زي حلاتنا) كانا يتحدثان عن أراضي بالعاصمة يباع فيها المتر بالدولار.. فقلت في نفسي حينها (لو جمعت لي 300 دولار.. أقدر أشتري عشرة أمتار.. أبني فيهم كشك استرزق منو).. شوف عقم التفكير (تبعي).. وأنظر إلى خيال ذلك الشاب الذي بنى بيتاً كاملاً عرضه ثلاثة أمتار فقط.. تتأمل تلك الصور فتعلم تلقائياً.. أنه لا مستحيل تحت الشمس.. وأننا يا صديق قد أضعنا عمرنا ونحن نجمع القرش فوق القرش.. لكي نشتري (قطعة ناصية من ناحيتين) وفاتحة على شارع الظلط.

رحم الله فنان الأجيال (صلاح بن البادية).. فقد كان يصدح بالأغنية الخالدة في وجدان الشعب السوداني.. والمعتمدة رسمياً لزفة العريس (سيد الحيشان التلاتة.. عريسنا جالس بانبساطة.. ودفع المية للمشاطة).. طبعاً ذلك الزمن كانت المائة جنيه مبلغاً خرافياً.. لكن ما يهمنا الآن هو موضوع الحيشان التلاتة هاجس الشعب السوداني ومبتغاه الأزلي.. تجد السوداني يتغرب بالسنوات الضوئية.. وكل ما يحضر إلى بلاده يقضي وقته بين السماسرة.. وأصحاب الأراضي.. وأصحاب البيوت.. حلم أحدهم الذي لا يتنازل عنه قطعة لا تقل عن 500 متر.. وطبعاً لازم تكون هناك خطة لعمل أكثر من خمسة طوابق.. منها شقق للعيال.. وما في مانع من بعض الاستثمار.. الأحلام كبيرة.. واليد قصيرة.. والأعمدة تطل برؤوسها بعد أعوام.. تليها سنوات عجاف يتوقف فيها البناء.. ومن ثم تأتي انتعاشة تشطب الطابق الأول.. وترتفع الأعمدة مرة أخرى.. وهكذا دواليك.. (لا بنيناك وفرحنا.. لا نسيناك واسترحنا).. والسنوات تمر.. والأيام تتسرب من بين الأيادي.. والعمر من وين بشتروهو.

أعتقد اننا نحن الموقعين أدناه.. الشعب السوداني.. نتفرد من دون سكان الأرض جميعاً بأننا نغرد خارج سرب التطور والتغيير من على جميع الأصعدة.. نتعلم وندرس ونسافر ونهاجر إلى أقاصي الدنيا.. ولكننا نعيش بذات الأفكار التي عاشها أجدادنا القدماء.. عايزين حيشان تلاتة.. ونقعد بانبساطة.. رغم ان الحالة ليست بذات (البخاتة).. والزمن تجاوز (المشاطة).. أذكر أنني سكنت شقة في بلاد الفرنجة.. كانت عبارة عن عشرين متر فقط.. حاجة روعة.. بها غرفة نوم.. وجلسة طعام ومطبخ وحمام.. وكمان شرفة بها نباتات تفتح النفس.. وفي المقابل.. أعرف أناس أفنوا حياتهم وهم يضعون الطوب فوق الطوب.. وأعمدة.. وعملوا الحيشان التلاتة وحاجات وشنو.. لكن العيال كان لهم رأي آخر.. هاجروا أو سكنوا بعيداً.. وصارت الغرف سكناً للعنكبوت.. مما جعل حديث أحدهم صحيحاً.. عندما طلبت منه زوجته بناء طابقين للعيال.. فقال لها مغاضباً (وأنا البنى لي منو؟.. كل زول مسؤول من نفسو).

أكسروا القوالب القديمة.. وخذوا من العالم الأفكار الجديدة الجميلة.. اسكنوا في المساحة المتاحة.. واجعلوها مليئة بالمحبة والمودة.. عملاً بالمثل القديم بعد التعديلات (النفوس كان اتطايبت.. الفيديو بشيل شريطين).

الجريدة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..