جيش نظامي تابع للدولة، أم دولة تابعة للجيش!

تقوم عقلية الجيوش على مفهوم الدفاع والهجوم، والاستعداد لقتل الخصم قبل أن يقوم هو بالقتل، وتصل أقصى درجات صلفها لتصبح كما عبر عنها سيء الصيت (shoot to kill) أو بتعبير صاحبه (ما تجيبو حي)، لذلك من الضروري أن يبقى الجيش في قوامه الأساس عبارة عن قوات نظامية دائمة مؤلفة من ضباط وجنود على قدر عالٍ جداً من الحرفية (Professional) خاضعين لقيادة مدنية رشيدة، فمن الخطر بمكان أن يصبح قادة الجيش على رأس السلطة الحاكمة أو السلطة المرجعية في الدولة الحديثة، لأن منطق العسكرية يختلف تماماً عن منطق السياسة، فمنطق العسكرية يجد مبرراته في ساحات القتال وفي حالة هجوم خارجي، ثم يصبح هذا المنطق بلا مبرر في ظروف السلم والتنمية، وإلا واصل مهام وظيفته ضد المواطنين، وليس هذا تقليلاً من شأن الجيش ولكن حصراً لمهامة في إطارها الصحيح.
في محاضرة للدكتور عزمي بشارة في مؤتمر “الجيش والسياسة”، عن صحيفة المدن الالكترونية، مستشهداً فيها بقوات الانكشارية والتي تعتبر من أوائل الجيوش الحديثة التي كونها السلطان مراد لتشكل الحرس الخاص، والتي أصبحت فيما بعد الآمر الناهي، تعزل وتنصب السلاطين حتى تضضعت الدولة (يزداد تدخل الانكشارية قوةً مسلحةً في شؤون الأستانة كلما تراجعت نجاعتها القتالية وعجزت عن قتال الأعداء في الثغور والذود عن السلطنة، وكلما زاد جشع قياداتها ومطالبتهم بحصص من الثروة. وقد تطوّر تداخل المصالح بينهم وبين فئة التجار في استنبول. ولاحقا أصبحت تسميةُ إنكشارية صفةً تُطلَق للتدليل على التخلف والفوضى وعدم النجاعة، مع أنها كانت في الماضي تستدعي صور الامتياز والشجاعة والتفوق).
نفرغ من هذه المقدمة التي استعصت على الايجاز وأصبحت في ذاتها موضوع، أن تدخُّل الجيش في السلطة يضعف كلا السلطة والجيش، ويفقد الأخير الامتياز والشجاعة والتفوق، وتدخل الجيش في النشاط الاقتصادي، لا يمكن النظر إليه إلا بوصفه المرحلة التي تسبق الاستحواذ على السلطة، أو التمكين لها كما هو الحال في نموذج مصر البائس، فقد تحول أفراد الجيش المصري لخبازين وبنائين، بل وبائعين متجولين في الشوارع، كما رشح مؤخراً عبر مقاطع الفيديو المنتشرة في السوشيال ميديا، بينما أصبح الجنرالات طبقات مرفهة فاحشة الثراء، والنموذج المصري، بطبيعة الحال، لا يصلح إلا كمادة للدراسة الأكاديمية التي تُظهر حجم الدمار والفوضى التي يمكن أن تؤول إليها الأحوال إذا ما (تعملق) الجيش خارج مهامه الأصيلة.
على كل مواطن سوداني وعلى كل طفل وتلميذ أن يعلم جيداً أن الأولوية في الحكم لمن لديه رؤية شاملة للعدل والخير العام (بحسب افلاطون)، وأن يكون الولاء أولاً وآخراً للدولة، وعلى الجيش أن يهتم بتطوير قدراته الدفاعية بحيث يقلل من التكاليف المادية ويرفع من القدرات التقنية، وأن تقتصر مهامه على الدفاع عن الدولة، وألا يسمح للجيش بعمل ترسانات اقتصادية خارجة عن السلطة التنفيذية، وأن تخضع موازنة الجيش للنقاش الحر قبل اجازتها.
وأخيراً نقطة في غاية الخطورة، وهي يجب تغيير بعض الألقاب الغير لائقة على غرار (سيادة اللواء أو الفريق)، فالسيادة يجب أن تكون حصراً للدولة ولا ينبغي أن تؤول لصاحب الرتبة العالية حتى لا يحاول ممارستها فعلياً، فهذا من الارث (المتخلف) الذي جعل من الضباط أصحاب سيادة فعلاً بدل الدولة، وكلما سمع هذا اللقب (الفخيم) تحرك في داخله الاستعداد للاستيلاء على سيادة الدولة. أما في حال استطعنا طولاً فلا بد من تغيير اسم (المجلس السيادي) إلى المجلس الرئاسي لتبقى السيادة لدولة القانون.
صديق النعمة الطيب