مقالات وآراء سياسية

حتي لا تدور الخرطوم في حلقات الزحام

عثمان الطيب عثمان المهدى

في العام 2018 قررت حكومة مدينة مدريد، عاصمة اسبانيا، منع دخول السيارات الخاصة وسط المدينة، وهي منطقة تعج بالحركة والنشاط، وشمل المنع شارع المدينة الرئيس وأكثرها غشيانا وهو شارع (جران فيا)، وكان الهدف المعلن من قرار المنع هو مكافحة تلوث الهواء ومعالجة زحام الشوارع، ورغم المعارضة الشديدة التي لاقاها هذا القرار من التجار والسكان والعاملين في المنطقة، أصرت عمدة المدينة مانويلا كارمينا علي المضي قدما في حظر السيارات من دخول وسط العاصمة، وسرعان ما ظهرت آثار هذا القرار الحكيم، حيث اختفي الزحام والازعاج والتلوث، والذى انخفض بنسبة 44%، وامتلأت الطرقات بالمارة والسائحين والراجلين الذي تخلصوا من خوفهم وحذرهم وضيقهم من ارتال السيارات المسرعة المزعجة، والتي كانت تجبرهم علي الاختباء والاحتماء بمسارات ضيقة تشكل جزءا ضئيلا من الشوارع التي تحتلها السيارات.

وعندما امسك تحالف اليمين والوسط واليمين المتطرف بزمام حكم المدينة في العام التالي، حاول الغاء قرار الحظر والسماح بدخول السيارات وسط المدينة كما وعد قادته اثناء فترة الانتخاب، والتي اعتبر أحدهم زحام السيارات وقت الذروة جزءا من هوية المدينة! غير أن المفاجأة كانت رفض اغلب سكان مدريد، بما فيهم تجار وسط المدينة، والذين اعترضوا على قرار الحظر اول مرة، السماح باستباحة السيارات لوسط المدينة مرة أخرى بعد ان جربوا جودة الحياة وانسياب الحركة وازدهار الأحوال بعيدا عن زحام وضجيج السيارات، وتحول قرار الغاء الحظر الى كرة نار مشتعلة لا يعرف تحالف اليمين التعامل معها والتخلص منها.

ولمعالجة مصاعب الزحام والتلوث في سنغافورة، والتي يسكنها حوالي 5.6 مليون نسمة، قررت الحكومة منع ترخيص أي سيارة خاصة جديدة في العام 2018 والاكتفاء بتجديد ترخيص السيارات الموجودة، والتي كان معدل زيادة اعدادها لا يتجاوز 0.25 % في العام، والتي يكلف اقتناؤها وترخيصها 4 اضعاف التكلفة في أمريكا، ولكن في المقابل تخطط الحكومة لإنفاق 20 بليون دولار لزيادة قدرة خطوط القطارات بنحو 30% وتحسين خدمات حافلات النقل وزيادة اعدادها، بالإضافة الي انشاء مسارات خاصة للدراجات واعتماد نظام الدراجات المشتركة، والذي يساعد على التنقل في المناطق التي لا تغطيها الحافلات، وبذلك تخطو هذه المدينة الدولة خطوات فعالة في الحفاظ علي مستوي جودة الحياة ومعالجة مصاعب زيادة السكان وعدم توفر الأرض، وتخطط الحكومة لمراجعة آثار هذا القرار في العام 2020 والبناء علي نتائجه. 

أما في لندن، فقد استحدث عمدة المدينة صادق خان رسوم تلوث جديدة تبلغ قيمتها 11.5 جنيها استرلينيا تفرض على كل سيارة تمر بنطاق وسط المدينة، وقد بدأ تحصيل هذه الرسوم في ابريل 2019، هذه بالإضافة الى رسوم الزحام المفروضة منذ العام 2003 والتي تبلغ قيمتها 12.5 جنيها، وبذلك تبلغ تكلفة قيادة الفرد لسيارته الخاصة في وسط مدينة لندن مبلغ 24 جنيها استرلينيا في اليوم، هذا غير تكاليف الانتظار والمواقف، رغم ان لندن بالإضافة الي مدن اخري حول العالم لا تعاني من زحام السيارات المفرط بسبب ارتفاع تكاليف اقتناء السيارات وتوفر وسائل النقل المختلفة وتقارب المناطق وعدم الحاجة الي الانتقال المستمر.      

تضرب هذه المدن الثلاث الامثال في فهم المسؤولين واستيعابهم لأصل مشاكل الزحام والتلوث والفوضى والتي تجتاح اغلب مدن العالم اليوم، والتي لا يمكن التعامل معها بالطرق المعهودة من توسيع الطرق وبناء المزيد من الجسور العلوية، والتي تزيد من الزحام واختناقات المرور، وهو ما يعرف بظاهرة (تحفيز الزحام)، ولكنهم عالجوا أسباب المشكلة واصلها، وفضلوا تقييد عدد السيارات التي تجوب طرقات المدينة، والتي ان تعدت حدا معينا فإن أعظم المهندسين وأكبر الميزانيات سوف تعجز عن معالجة مصاعبها، واعتبروا السيارة وترخيصها منحة من الدولة وليس حقا للمواطن، وهي حقيقة يجهلها الكثير من الناس، واذا ما تغابي المسؤولون عن هذه الوقائع، كما يحدث في الكثير من الدول المتخلفة، فان هذه المدن سوف تكابد المزيد من المصاعب والزحام والتلوث والقبح والتشوه!

م. عثمان الطيب عثمان المهدى، الدوحة

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..