الوثيقة الدستورية و غلّ يد السلطة المدنيّة عن أكمال هياكل السلطة القضائية المستقلة
التجاني محمّد صالح

مما لا شكّ فيه أنّ ما يشغل بال الشارع السوداني الآن هو عدم إكتمال الهياكل الدستورية للحكم المدني متمثلة في أجهزة القضاء القومي و المجلس التشريعي الإنتقالي الأمر الذي قاد إلى طرح كثير من علامات الإستفهام حول الأسباب و الدوافع التي تقف وراء ذلك.
لقد نشرت وزارة العدل الوثيقة الدستورية للفترة الإنتقالية (النسخة الأخيرة) التي جاء في فصليها الثامن و التاسع وصف لأجهزة القضاء القومي بمكوناته العديدة من مجلس قضاء عالي، سلطة قضائية، محكمة دستورية و نيابة عامّة و حدّدت آلية تكوين كل منها و إختصاصاته. حدّدت الوثيقة أن يبدأ تكوين الأجهزة القضائيّة بإنشاء مجلس القضاء العالي الذي يقوم بدوره بإكمال بقية الهياكل القضائية.
ذكرت الوثيقة الدستوريّة في المادة 29 (1) الآتي: “يُنشأ مجلس للقضاء العالي ليحل محل المفوضيّة القومية للخدمة القضائيّة و يتولّى مهامها، و يحدّد القانون تشكيله و اختصاصاته و سلطاته”. و لحين “تشكيل” مجلس القضاء العالي و لحين “إعادة تشكيل” المجلس الأعلى للنيابة فقد أعطت الوثيقة الدستورية في المادة 12 (1) (و) و (ي) مجلس السيادة حقّ تعيين رئيس القضاء و النائب العام و سكتت عن تعيين رئيس المحكمة الدستوريّة.
السؤال: أين المشكلة؟ و لماذا لم يقم مجلس السيادة حتّى الآن بتعيين رئيس القضاء و النائب العام؟
سؤال آخر: كيف يتمّ تعيين رئيس المحكمة الدستورية في عدم وجود مجلس القضاء العالي المنوط به إختيار رئيس المحكمة الدستوريّة و في ظلّ سكوت الوثيقة عن إعطاء حقّ التعيين لمجلس السيادة؟
الأسئلة المطروحة جوهريّة و محقّة و الإجابة عليها ضروريّة و ملحّة خاصّة من أؤلئك الذين قاموا بكتابة بنود الوثيقة.
في ظلّ الظروف العاديّة قد تبدو الإجابة سهلة و قد لا يحتاج الشارع إلى أن يطرح تلك الأسئلة أصلاً بوصف أنّ تعيين رئيس القضاء و النائب العام سيكون من أولى أولويات مجلس السيادة ينجزه في إجتماعه الأول و أنّ الوثيقة الدستوريّة (وفقاً لآليّة التعديل المتفق عليها) سَيُسَارع إلى تضمينها بنداً عمليّاً ينصّ على آليّة تعيين رئيس المحكمة الدستوريّة لحين تشكيل مجلس القضاء العالي. من نافلة القول إنه قد إنعقدت إجتماعات و تمّ تداول أسماء حازت على قبول الشارع لما عرفت به تلك الشخصيات من نزاهة و معرفة و إستقلالية قراراتها و لكن لم يتمّ التوافق بشأنها بل جاء الرفض كما هو معلوم من الجانب العسكري في مجلس السيادة على الرغم من وجود أكثريّة الأصوات المدنيّة داخل المجلس التي تساند إختيار الشارع بأغلبيّة 6 إلى 5.
أكثريّة المدنيين المتمثلة في وجود 6 أعضاء في مقابل 5 أعضاء للعسكريين لا تعني شيئاً في ظلّ آليّة إتخاذ القرار داخل مجلس السيادة المنصوص عليها في الوثيقة الدستوريّة تحت البند 12 (3) التي تنص على أنّ تصدر قرارات مجلس السيادة ب”التوافق” أو ب”أغلبيّة ثلثي أعضائه في حالة عدم التوافق”. فمن المسلّم به أنّه سوف لن يكون هناك توافق داخل مجلس السيادة حول أيّ موضوع لا يكون الجانب العسكري موافقاً عليه خاصّة ما يتعلّق بالقضاء وما يمثله من سيف للحقّ مسلول على كل من ظلم خلال العهد البائد. كما إنّه من المستحيل الحصول على ثلثي الأصوات داخل المجلس إذا علمنا أنّ المدنيين لا يمثلون فيه إلّا نسبة 54.5% في أحسن الأحوال. العسكريون يكسبون و كلّه “بالقانون”. و هناك سؤال آخر: لماذا تمّ تغيير نسبة المصادقة على قرارات مجلس السيادة من الأغلبية البسيطة (50%+1) إلى أغلبية الثلثين (66.7%) التي كانت موجودة في النصوص الأولى للوثيقة؟ و من المسؤول عن ذلك؟
في ظلّ نصوص الوثيقة الدستورية سوف لن نحلم بتكوين قضاء مستقل و نزيه خلال الفترة الإنتقاليّة يخضع لسلطانه الجميع، يعيد حقوق الشهداء، يحاكم على جرائم دارفور، يعيد ما نهب من أموال الشعب. سيظل النظام القديم ممسكاً بملف القضاء يوجّهه لغير صالح المظلومين و يضمن به إستمرار الفساد مما سيؤلّب المواطنين على حكومتهم و ربما الثورة عليها لا قدر الله. ليس هذا فحسب فستكون هناك ضرورة تغيير القوانين لتتواءم مع نصوص الوثيقة الدستورية أمراً بعيد المنال و كلّ ذلك يحدث “بالقانون”. و أمّا المجلس التشريعي فهو العنقاء بعينها.
لا بدّ من القطران و الشارع هو القطران و في القطران للجربى دواء.
6 أبريل يحبنا و نحبه.
التجاني محمّد صالح
للأسف كل ذكرت صحيح يا أخ التجاني وخاصة فيما يتعلق بآلية إتخاذ قرارات المجلس وقد مكثنا دهرا من التفاوض للحصول على الأغلبية المدنية البسيطة في المجلس لماذا يا ترى؟! أليس لتمرير قرارات الثورة؟ لقد وافق العسكر على ذلك بعد لأي ومماطلة ولكن بعد أن استغفلوا المغفلين أمثال ساطع الحاج وابتسام سنهوري بتحديد نسبة الثلثين إن لم يتوفر التوافق، فاتفاق الثلثين هو التوافق وليس إجماعا! ويبدو أنهما كانا يعتبران أن التوافق هو الإجماع! وهل في أي مجلس في العالم يشترط عاقل أن تكون قراراته بالإجماع؟ فكيف وافقا على أغلبية ثلثين ونسبة المكون المدني في المجلس في أحسن الأحوال كما تفضلت لا تجاوز الأغلبية البسيطة؟! هل هذين مع المدنية حقا أم مع ماذا؟ حتى الآن اقتصرنا على وصفهما بالمغفلين فقط وعليهما تقبل ذلك وإلا فإن وصف الخائنين أو الجاهلين هو الذي سينطبق عليهما إن لم يكونا مغفلين فعلاً!