الإئتلاف و الإختلاف فى علاقات الدّولة مع الشّعب: نموذج الجبهة الإسلامية و الشّعب السّودانى
عبدالرحمن صالح احمد( ابو عفيف)

( نظرية الثورة و الثورة المضادة )
ما هى التجربة الأولى التى واكبها الأنسانفى أوّل علاقة سلطوية ما بين مجموعتى الحاكم و المحكوم ؟ قد تكون تلك التجربة فى الصين أو بابل …, لكنالنُظم الغربية للحُكم منأكثر النماذج الواضحةلمثل تلك العلاقات , و لما كانت جهة الحاكم هى الأقوى فى السيطرة على الحكمفقد أستخدمت القوة و العنف فى الغالب لإقامة أىِّ من العلاقات مع الشعب , مع وجود المقدمات المرنة و رفع شعارات الرحمة و التفويض الإلهى.
نشر دين الله فى أرض الأرواح الضالة و الوثنية هى الواجهة التبشيرية التى صِيغت بها الحُجج لفتح أمريكا بقيادةهيرناند كورتيس قائد جيوش كلمبوس المفوض المطلق لإقامة مدينة الله فى الدنيا الجديدةبرفقة القسيس لاس كازاس,مهما يكن كان هذا على مستوى النخبوى, أمّا على المستوى الشعبى أستخدمت الدولة المنهج التنويمىالذى قام على البحث عن مملكة الكاهن يوحنا (Prester John) و مقابلة الأموزونيات فى الفردوس الأرضى , بعد إنتصاره على الهنود الحُمر وقع كورتيس فى شراك الشجاعة الكاذبة التى عادةً ما تتولد عن الخوف من المجهول و عواقب الدخول فى أرض لا يُعرف لها حد , من أبشع ما تم تدوينه عن الشجاعة الكاذبة هوقطع رقاب أهل القرية التى مرّت بهاجيوش كورتيس قطعاً بالسيوف , فقط لأنهم أرادوا إختبار سيوفهم إن كانت سنينة بعد صيانتها , فأقرب ما وجدوه كانت رؤوس أهل القرية, بعدها عندما شعر هيرناند كورتيس بجوع كلبه المرافق تسارع لتناول طفلاً من أحضانه أمّه الهندية و تقديمه وجبة سائغة له , هذا النوع من العنف يعكس رد فعل تعويضى مُسْبَق لدرء الخوف من المجهول و العواقب المحتملة ,هذا يُعتبر نموذجللتجربة الأولى لإقامة علاقة سلطوية ما بين الغزاة الأوربيين و السكان الأصليين من الهنود فى أرض أمريكا, فنشأت علاقةفاترة من منطلق تخاصمى ما بين الدخيل و الأصيل بسبب بالشعور المشبّع بالغربة و الزونوفوبيا ,و ما زالت العلاقات ما بين الدولة و الشعب الأمريكى حتى عهد الرئيس جيمس منرو يتوفق فيها التخالف على التآلف.
الإغتراب عن المجتمع جدير بإعادة إنتاج و تجديد ظاهرة هيرناند كورتيس , من العوامل التى تساعد على ظهور متلازمة الإغتراب هى الأيديولوجية السياسية , كما كانت لدى النازية بقيادة هتلر و البلشفية بقيادة لينين و الثورة الإيرانية بقيادة الشاه آية الله روح الله الخمينى و الأخوان المسلمين . تجربة الأخوان المسلمين فى مصر كشفت عن فتور البنية المعرفية لدى التنظيم الأخوانى بالمجتمع المصرى أى أنّ مجموعة الأخوان كانوا غرباء على المجتمع , فالخطاب السياسى الذى صِيغ لإحتضان الشعب كان أقرب الى خيالات شُعراء الهجاءمن المنهج التعبوى بالتالى تحولت علاقتهم بالشعب إلى ظاهرة تخاصمية و من ثم إلى إنهيار دولتهم المتهالكة أمام الشعب المصرى , فأندثروا قبل إندثار الدولة العميقة التى أعادت نفسهامرةً أخرى على كرسى السلطة بقوة .
نظام الجبهة الاسلامية فى السودان جاء بمجموعة من المناهج التهديدية لتخويف الشعب حتى لا يتطاول عليه , و من بين ذلك تخويف الناس بالتكفيرو التهجير و الخروج من المِلّة و الفصل عن العملو التشريد و العذيب و القتل , أكبر المناورات التى مُورِست للتخويف تضمنتإعلانات العذاب للمعسكرين الشرقى و الغربى الذَّين يحكمان العالم ,”أمريكا و روسيا قد دنى عذابها”,إذّنْ كيف لشعبٍ لا حول له و لا قوةأن يقف أمامهم , و يُعتبر هذا نموذجاً لتكرار ظاهرة هيرناند كورتيس, و بالتالى هذا السلوك يرسّخ ذلك الفشل البيّن و الذريع فى إنتاج تآلف مع الشعب منذ البداية مما أدّى إلىتحويل و تحوير العلاقة ما بين الدولة و الشعبإلى علاقة إستراقاقية من الدرجة الأولى .لم تكن الجَزرة معدومة فى خطاب الإسلاميين لتقديمها للشعب , لكن العصى كانت أكثر موضوعيةً منها,كما أوعد كورتيس أتباعه بالأموزونيات فى مملكة الكاهن يوحنا بعد التفويض الإلهى الذى منحته الكنيسة لهم , على نفس المنوال أوعدت الجبهة الإسلامية أتباعها و من أراد من الشعب السودانى للتزاوج منالحُور العِين عبر غابات الجنوب بل حتى فى دار المسلمين التى جعلوا منها ساحة للوغى, بل تجاوزت مغازلة الشعب و دغدغة مشاعره خطوط الإدارك الفيزيائى و التعامل مع البشر إلى الملائكة,و قد حمّلوا العقول ما لا يحتمله المنطق حين زعموا أنّ الملائكة هى المسؤولة عن الدعم اللوجستى للكتائب الجهادية .
الإسراتيجية القومية الشاملة و الإسراتيجية الربع قرنية و قرارت رأس الدولة و ما شاكل ذلك ماهى إلّا مجمومة من الإجراءات التنويمية التى يتم عبرها محاولات لأستدراج الشعب إلى داخل مصائد التنظيم الإسلامىالممنهج و من ثم تدجينهم للإحتشاد التلقائى عند الضرورة مثل كرنفال عرس الشهيد والتنديد بالدول الفاجرة و التنظيمات المعارضة و الإلتفاف على حقوق الغلابة و صناعة ثورة مضادة كما هى الآن ماثلة أمامنا, أمّا من حيث الموضوعية ,هذه الاستراتيجيات الإنقاذية لا تختلف كثيراً عن ” طبقات ود ضيف الله” الّا فى النصوص.المعالجات الحاسمة لمثل هذه الأشياء هىالمعادلة المنهجيةالتى تتمثل فى المقاومة الراشدة.
المقاومة الراشدة هى من خواص الثورة الشعبية السودانية, هى المسؤولة عن تفكيك إمبراطورية القراصنة فى أوج عظمتها ( الإنقاذ) و تقويض مخططات التخريب التى حاكتهاسدنة النظام الشمولى بعد إنهياره عن طريق التعادل الإيجابى أى معادلة الافعال السالبة بالسلوك الايجابى لتحييدها , المقاومة الراشدةتقوم على ترسيخ التوازن العام و ليس تأجيج المعارك و التصادم, لأنّ مبادئالثورة الحقيقية مشبعة بوعى تجريبىتضمنت منهج السلمية فى الممارسة التى أنعكست فى شعار ” حرية سلام عدالة”, و من الضرورى عدم مجاراة أساليب الثورة المضادةالمتثمل فىالسلوك القمعى إذ يُعتبر عنصر أساسى فى محركات مليشيات الإنقاذ, و ما زالت تمارسه لتفعيل الثورة المضادة و يظهر ذلك جلياً فىأحداث الأبيض التى قُتل فيها طلبة المدارس, و أحداث وادى صالح بدارفور, الاحتكاكات القبلية فى بورتسودان ,اثارة الفوضى فى نيالا و الفاشر وتلودى, ,و هناك أيضاً توقعاتلإثارة الفوضى فى مسيرة 21 أكتوبر التى هم من قاموا بالتجهيز و الدعاية لها,كل هذه الأنشطة السالبة تُمارس لتوفير ظروف مناسبة لتقويض الثورة الشعبية.بالتالى على الشعب ان يستدرك أنّ المقاومة الراشدة هى إجراءات ( تفكيكية- بنائية) إيجابية لمعادلة الممارسات السالبة و إحتوائها ثم تحييدها و إستئصالها بدون الدخول فى اصطدام و عراك مع جهات مجهولة, أىُّ سلوك غير راشد يُعتبر سانحةلتحقيق حُلم الساعين لتقويض الثورة, و قد أنكشف جلياً أنّ خطوط سير الجبهة الإسلامية ينجر على إعوجاج مبادئها المنهجية ,و قدتميز حكم الانقاذمنذ بدايتهبالفشل فى ترسيخ التآلف مع الشعب ,و أنتهىبظواهر إفشاء الفتن و تغزيز الخلافات بين مكونات المجتمع لإرباك مسيرة الثورة و إعادة أنفسهم إلى حكم البلاد بعد سقوطهم.
هذه التناقضات, التى أنعكست فى محاولات فاشلةلصناعة توليفة من أجْل إبتلاع الشعب و تعويمه فى زخم الأيديولوجيا الإسلامية , أدّتإلى إهلاك و تهتك الروابط المُمكِنة و المُحتَّملة ما بين الدولة الإسلامية و الشعب , و أدّتإلى تباعد المسافة ما بين الأثنين , ثم أنتقل التهتك و الترهل إلى الإسلاميين أنفسهم حيث أصابهم التشظى , فأصبحت الحركة الإسلامية أشبه بحشرة فَرَس النّبى التى تأكل زوجها بعد التزاوج وذلك لأنّ التلقيح لا يتم إلاّ بهذه الطريقة , فصارت الحركة الإسلامية تتغذى من لحمها و من جاورها حتى تبقى على قيد الحياة .
عبدالرحمن صالح احمد( ابو عفيف)
facebook:AbdurrahmanSalih