مقالات وآراء

حياتنا بين الامس واليوم

من المؤسف ان كثيرا من الناس لا يعلمون الفرق بين الأمس واليوم خاصة من هم في الأربعين عاما فما دون ، صحيح كان فقرنا اكبر، والجهل الذي يحيط بنا أعمق، لكن مع ذلك كانت أخلاقنا اقل سوءا مما هي عليه الآن، وكان سلوكنا ارقى بكثير من سلوكنا هذه الايام .كانت نفوسنا اعز علينا من بطوننا، وكانت ثقتنا بأنفسنا تحول بيننا وبين هذا الهبوط والتردي والتشرذم، والكذب والنفاق الذي نراه ماثلا امام اعيننا.
لوعدنا للماضي والماضي القريب، ومن قاعدة الطمأنينة لكان خير شاهد هي تلك الايام والليالي التي عشناها الخالية من القلق والهموم والصراعات الاقليمية والدولية من حولنا التي سلبت منا لذيذ المنام.
منذ مجيئنا للحياة في الاربعينات من القرن الماضي ، وقبل ان نبدأ التعليم في المدارس النظامية، كانت الدراسة مقتصرة على تعليم القران الكريم واللغة العربية ومبادئ الحساب والتاريخ وكان يقام احتفال عند اتمام الطالب دراسة القران الكريم ” الختمة”.
كنا نكتب بخط واضح وجميل، افضل بكثير من طلاب الجامعات في الوقت الحاضر، وعند بلوغنا السادسة من العمر انتقلنا للدراسة في المدارس النظامية العام دون انقطاع ،سوى خمسة عشر يوما خلال ايام الربيع، واخرى نهاية العام الدراسي، ليست مثل العطل في الوقت الحاضر، والتي تبلغ اكثر من 150 يوم عطلة في السنة ،تؤدي الى تدهور وارباك المسيرة التربوية، وكنا نذهب الى المدرسة بدوام مسائي اخر( درس العصر ) لمدة ساعتين يوميا بحيث تكون مجموع الدروس ستة دروس في اليوم ،المدارس اليوم تشكو الشواغر وكثرة اجازات الهيئات التعليمية وغيابات التلاميذ.
كان الحرص كبيرا جدا من المعلم او المعلمة على التلاميذ وايصال المادة بيسر، متابعة نظافة التلميذ.
قبل دخولنا للمدرسة ، لم نكن نعرف القلق، همومنا محصورة في يومنا وعندما تشرق شمس يوم جديد تتلاشى عثرات هموم الأمس، لم نكن نعرف معنى الطائفية والعنصرية او القبلية او الجهوية ،هذه الاسماء الدخيلة على مجتمعنا.
كانت منازلنا متلاصقة بيوت من الطين، ننام مع اطفال جارنا واطفالهم ينامون عندنا ناكل من اكلهم ويأكلون من اكلنا، لانعرف غير المودة، والكلمة الطيبة التي ننادي بها الاكبر منا سنا، نهاب المعلم ونحترمه ونهرب بعيدا منه عندما نراه في الشارع العام او جالسا في النادي، ولكن عندما اكتسى ثرى الأرض بخيراتها واصبح النفط نقمة، وتوسعت مدارك الإنسان ،وتقدم في علمه وعلومه في الاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي وتوسع الجامعات والكليات، همز شيطان الإنس في ضمائر الحاقدين ،أن ازرعوا الفتن بين الضعفاء ليخلو لهم سواد الأرض من جمهرة الابرياء.
اثارة الفتن
طرق اثارة الفتن تشعبت من بين فتحات الغفلة، وسقطت فيها قلوب غضة، امتلأت بنيران الحقد والكراهية ،بعد ان استجمعت قواها من وهن المبادئ ،معتقدة قدرتها على قلب موازين الكون ،تسير على خطى الغدر تنبش العفن، عفن الهموم من بين انقاض الحياة .
كنا في الخمسينات نتحدث عن الصدق والنظافة والايمان وحب الوطن، يتحدثون الان في مدارسهم، وفي ما بينهم عن الطائفية والحزبية ومشاهدات افلام اباحية على الانترنت او المحطات الفضائية، يدخنون السكائر ويتغيبون عن المدرسة، يفتقرون للصدق والنظافة والتعلم، كسالى حاقدون البعض على البعض الاخر ،بحيث يصل حد الشجار والضرب بالأسلحة الجارحة التي يحملونها معهم الى المدرسة في حقائبهم، نتيجة ضعف ادارات الكثير من المدارس وكذلك ضعف المراقبة العائلية .
لم تكن المشاهد فيما مضى توحي بتغيرات الحياة، لأننا تشبعنا بصفاء الأخوة ولم نكن نتوجس خيفة من وهج الحياة لامتلاكنا قلوباً مطمئنة، لكن صيحات البطش من حولنا، نشرت سواداً تسلل بعضه على موائد فكرنا. هموم تواترت علينا استوردناها من خارج، معتقدنا ومبادئنا قسمتنا الى فريقين ،تنازعنا قوة فرضت علينا راياتها مبطنة بالخبث، يحملها من استهوتهم مصطلحات طغت على مفاهيمهم، فأمنوا بها يرددونها في كل محفل ظانين انها صالحه لكل زمان ومكان وانها قابله لحل مشاكلنا وهمومنا ،وقوة اخرى تدافع عن نفسها في البقاء.
كان الساسة وكبار القوم يختلفون في الآراء والمواقف، ولكن بنزاهة وعلم وترفع، وكان اصحاب ابداعات الفن والادب والشعر والصحافة، يبدعون كل على طريقته واسلوبه، وكانت صراعات السياسة ولكن بوعي وانتماء ووطنية. وكانت سمعة الوطن وتاريخه وثوابته، خطوط حمراء لا تجاوز فيها ولا تشويه.
كان مجتمعنا محكوم بسلوكيات رائعة وناضجة، ابتداء بالخلافات في الآراء والمواقف ،وانتهاء بما يقال في وسائل الاعلام ، وكان الضمير يحكم كل شيء، لأنه يتجرد من كل نوازع المصالح والغايات. كانت المعارك تدور على صفحات الجرائد ،ولكنها معارك افكار وليست صراعات على صفقة او لحساب رجل اعمال او ابواقا للسلطة. وليست مثلما يحصل على صفحات التواصل الاجتماعي اليوم.
استجداء علني
كان الناس يستجدون على استحياء ، فصاروا اليوم يستجدون علنا، كان هناك عيب ان يستجدي الاطفال، فصار الاطفال اليوم يزاحمون الشيوخ والمعوقين والمعوزين في مد ايديهم طلبا للمال.
كانت المساجد ليست بها فرق، وكان علماء الدين كل في مسجده وحول جماعته، لا يكفر احد ولا يشرك أحدا، ولا يسب احد، بل كانوا في حب ووفاق. واليوم تنابز الالقاب والسب والشتم والتكفير من على المنابر.
وكان مجلس الاعيان مجلس (والشيوخ والعمد) ومجلس الوزراء يمثل كل الشعب وعضو المجلس لا يتحدث بطائفية ولا مناطقية ولا حزبية بل يتحدث باسم الشعب والوطن .
في حين اصبح نواب الشعب والوزراء اليوم يمثلون طوائفهم وأحزابهم ولا يمثلون الشعب، يتحدثون بطائفية مقيته تفرق ولا توحد دون حياء او خجل .
الشهادات العلمية بالأمس يحصل عليها من جد واجتهد ونالها بموضوعها الجديد أطروحة او رسالة من جامعات مرموقة اما اليوم هناك أشخاص مهمون يشار لهم بالبنان في هذا المجتمع المنكوب حصلوا عليها دون تعب أو فتح مرجع او كتاب لينجون من ورائها الأموال والمكاسب والعلاوات الوظيفية التي لا تتناسب مع هذه الدرجة العلمية ( غير المتعوب عليها).
بالأمس مدن نظيفة راقية يسودها الأمن والاستقرار والمحبة والألفة بين الناس ،واليوم اصبحت مدن مزدحمة بالعشوائيات ومكتظة بالأحقاد والاحتقان الطائفي والمذهبي والاثني . في الأمس كان البيع بكلمة عهد بين البائع والمشتري اما اليوم سوق المواسير وسوق العبش الحبوب التي يتعامل معهما ابناء الوطن او الاستدانة بين الناس ،اما اليوم فمحاكم وجيش من المحامين وقاتل ومقتول ونزاعات طائفية لاسترجاع الحقوق المالية او نصـفها على اقل تقدير. بالأمس كانت الخلافات خلف ابواب موصده، بنوع من الكتمان والسرية ، اما اليوم هذه الخلافات في اروقة المحاكم، بل اعتداء البعض على الاخر بالسب والشتم والضرب داخل المحاكم .
عادات الزواج بالأمس كانت تتم عبر الاهل والخطابة واساسها البساطة والتواضع ،وعدم المبالغة سواء بإقامة الحفل في المنزل او نصب خيمة في الشارع او الزقاق ،وتقديم الطعام المحضر في المنزل ودعوة الفرق الشعبية لتقديم الاغاني الشعبية والمربعات، وابناء الحي والاقارب والاصدقاء يشاركون بكل الفة ومودة، مشاركين ومهنئين فرحين دون تكاليف تثقل كاهل العريس كثيرا، اما اليوم فتتم على اساس التفاخر والتباهي بالمظاهر، واقامة الحفل في القاعات والفنادق الراقية، ومتعهدو الحفلات يلتزمون بكل التفاصيل والحيثيات اضافة الى شروط السكن والمهر ومقدار الذهب والاثاث ،فاذا هو يتسم بمظاهر البذخ والترف، وهو ما جعل الشباب يعزفون عن الزواج حتى بسن متأخرة..
هكذا كانت حياتنا بالأمس وهمومنا اليوم

الهادي فضيل ابراهيم
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..