
تداعيات
نهايات اغسطس من الثامن و الثمانين من القرن المنصرم استقبلتنا القضارف بخريفها المترع، وصلناها عصرا ، كان عصرا تشع نداوته و يتباهي برائحة الدعاش ، استقبلنا وفد من الاخوة المعلمين من اعضاء لجنة النقابة بالقضارف اصحاب الدعوة لاقامة ليلة شعرية في دارهم ، كان معي الشاعر الصديق عمر الطيب الدوش ، اهدتنا القضارف بعد وصولنا الي حيث نزلنا بميز المعلمين ، اهدتنا ليلة مطيرة لها من البروق كرنفالات مضيئة و من الرعود ذلك الهدير الصخاب
كان عمر الدوش في تلك الليلة في احسن حالاته و متحالفا مع نشوته العميقة ، تلك النشوة التي يذهب بها نحو الديمومة ، يهرب عمر الدوش دائما من مغبة فعل الحياد ، كان في تلك الليلة يوزع ضحكاته الصاخبة علي الجميع و اولئك المعلمون يخصوننا بنوع من تلك الالفة و الحميمية العالية ، التفوا حولنا و حركوا فينا بإلحاحهم العذب إلفة ان ننتمي للشعر و لم يملك عمر الدوش ـ الذي كان دائما ما يهرب من إلفته العميقة و السرية مع الشعر لانه لا يحفظ اشعاره ـ لم يملك مع ذلك الالحاح العذب الا يخرج كراسته و ينحاز الي قصيدته ، لا زلت اذكر صوت عمر الدوش و هو يقرأ علي الحاضرين قصائده و قطرات المطر وهي تسقط علي زنك السقف و كأنها تدس اصواتها الصاخبة و الهادئة احيانا في نسيج المقاطع الشعرية التي يسربها صوت عمر الدوش المشحون بالشجن ، اذكر ان احد المعلمين قد سأله عن قصيدة لها اثر واضح في تكوينه الشعري، فأشار عمر الدوش الي( الحاردلو )الكبير و قرأ علي الحاضرين هذا المقطع الشعري من ذاكرته
(يا خالق الوجود
انا قلبي كاتم سرو
ما لقيت اليدرك المعني
بيهو ابرو
قصبة منصح الوادي
المخضر درو
راحت قلبي تطوي
و كل ساعة تفرو)
و هكذا تحالف الليل المطير مع الشعر و الانس الجميل .
عادة ما يستيقظ عمر الدوش مبكرا جدا و كأنه علي موعد ازلي مع الفجر ، الفجر في اي مكان ، في حي الموردة عمر الدوش كان دائما يوقظني لنتابع اصوات المؤذنين لصلاة الفجر ، كان عمر الدوش يعرف عدد المؤذنين في المنطقة و يكاد يعرف عدد الديوك و هي تتصايح معلنة قدوم الفجر و له ثلاثية مسرحية عن هذه العلائق و هي ثلاث مسرحيات قصيرات تحت العناوين التالية ، (زمن الديكة) و (زمن الكلاب) و زمن ثالث لا اذكره لعله زمن الأذان ، للفجر مع عمر الدوش تلك العلائق التي تشير الي بداية الحياة.
و هكذا مبكرا جدا ايقظني عمر الدوش كي نتجول في صباح القضارف الندي ، عمر يتلبسه ذلك القلق الذي يبعث علي الحركة و له قدرة ان يحرك كل من و ما حوله ، قادتنا خطواتنا ذات اللاهدف الي احد احياء القضارف ، دون قصد وجدنا اننا نتجول في حي له اسم غريب ، حي ـ (سلامة البيه) ـ كان عمر الدوش قد سأل احد المارة عن اسم الحي الذي نحن فيه وحين اجابه الرجل بدأ عمر الدوش يتساءل عمن هو هذاـ البيه ـ و يضحك بخفوت متهكم قائلا
ـ (وسلامتو من شنو؟)
(سلامة البيه )، الصباح فيه مختلف ، حركة دؤوبة ، بيوت القش تبدو و كأنها تحاول ان تنفض عنها امطار الليلة السابقة ، ازقة ضيقة يصعب فيها المشي بسبب لزوجة الطين ، خلع عمر الدوش نعليه و لم املك انا الا ان افعل ذلك ، دخلنا بيوت و خرجنا من اخري وعمر الدوش يبحث وبالحاح جميل عن نشوته الصباحية تلك التي لا تستقيم الحياة بدونها، هكذا دائما عمر الدوش منتم الي تألفه الخاص مع الحياة ، هارب من الثوابت الاخلاقية ، عاري الرغبات التي لا يكبحها كابح ، هو ككلمات قصائده حاضر في مطلق التفسيرات ، داهمتنا الظهيرة و نحن نتجول في حي ـ (سلامة البيه) ـ و عمر الدوش لم يجد حتي الان الاجابة عن من هو ـ البيه ـ و سلامتو من شنو ؟
بقلق خاص تجاه اصحاب دعوتنا بدأت احرض عمر الدوش علي الرجوع ، الرجوع الي ميز المعلمين و خاصة انهم لابد و قد افتقدونا و لكن عمر الدوش يصر علي البقاء متجولا بين القطاطي و الرواكيب و الكرانك ـ حاملا نعليه بين يديه و كذلك أنا ، عمر الدوش حافيا بين الناس مصطادا حكاياتهم و احلامهم و معاناتهم و كلما الح عليه في الرجوع يجابهني عمر بهذه الجملة ـ (( يا اخي عندك شنو هناك و بعدين لازم نعرف البيه ده منو و سلامتو من شنو يا اخ…..ي ))
و بعد الحاح شديد و ممانعة اشد رجعنا راجلين الي الميز و نحن نحمل نعلينا في ايدينا و فعلا وجدنا ذلك القلق المنطقي علي غيابنا و في المساء كانت الليلة الشعريه في دار المعلمين و كما استقبلتنا القضارف بخريفها المترع كذلك استقبلتنا بجمهور حميم تجاه اشعارنا و بذلك النقاش الحي حول تفاصيل تجربة القصيدة الغنائية الجديدة .
في صباح اليوم التالي و علي البص المتحرك الي الخرطوم ، في الثامنة صباحا اخذنا مقاعدنا بعد ان اهدانا اولئك المعلمون ضجة من طقوس الوداع ـ قبل ذلك و مع صراع الخيط الابيض مع الخيط الاسود من الفجر ايقظني عمرالدوش وقال لي ـ ((ما نمشي نسأل عن البيه و سلامتو من شنو))
تحرك بنا البص و صوت مغني يدعي ـ بلال موسي ـ كان يجرح تاملات عمر الصباحية
(القمر خالا و عمها
و الشمس تشبه امها
العزيزة عزيزة امها
في القضارف يتم سعدها)
وحين كان عمر الدوش يتحدث لي و بمتعة عن طائر البطريق و كيف انه يختار زوجته بان يحمل حجرا و يضعه امامها فاذا اخذت الحجر فمعني ذلك انها قبلت به شريكا لحياتها و اذا رفضت فما علي ذلك الطائر الا ان يبحث عن قصيدة يكتبها علي طريقة شعراء الخيبة العاطفية في السودان و عمر الدوش كان دائما ما يقذف في اتجاهي بذلك السؤال الحميم ـ (( اها يا اخوي حجرك جدعتو وين الايام دي ؟ ))ـ
وذلك استنادا علي مرجعية تخص طائر البطريق
كان عمر الدوش يسقط احتمالات عشقه علي طائر البطريق حين دوت صرخة حادة من داخل البص ، شابة يانعة تصرخ و تولول و هي تحتضن بعنف امها التي فارقت الحياة و هي جالسة علي مقعد بقربها ، اوقف السائق البص ، اختفي قبل ذلك صوت المغني بلال موسي، ارتبك الحضور، كنا قد اقتربنا من محطة ـ الخياري ـ ، الشابة تصرخ ثآكلة و تعاون الجميع تجاه هذه المآساة و تم نقل الام التي ماتت بعد ان جهز بوكس كاشف لارجاع الجثمان الي القضارف، كانت صرخات تلك الشابة تكثف في دواخل جميع ركاب تلك الرحلة غرابة معاني الموت المفاجئ .
نقص عدد الركاب و خلا مقعدان في البص ، مقعدي الام وبنتها وتحرك البص ، همس لي عمر الدوش حين تحرك البص
ـ ((تفتكر السواق حيشغل المسجل ؟))
كنت لا املك الاجابة ولكن كان عمر الدوش يبحث عن نسيج درامي خاص لهذا الموقف ، ولم تمضي ربع ساعة علي تحرك البص حتي عاد صوت بلال موسي ممتهنا ـ عبد العزيز داؤودـ في (اغنية المنديل
(او تذكرين حبيبتي
او ربما لا تذكرين)
و برقت عيون عمر الدوش منحازة الي الحياة.
يحيي فضل الله – فيسبوك
رحم الله المبدع عمر الطيب الدوش فقد اثري الساحة الابداعية بقصائدة ومؤلفاته المسرحية التي تعتبر من اميز المؤلفات التي يجب تدريسها الي طلاب المعاهد والجامعات المتخصصة في هذا الشان
رحم الله المبدع عمر الطيب الدوش فقد اثري الساحة الابداعية بقصائدة ومؤلفاته المسرحية التي تعتبر من اميز المؤلفات التي يجب تدريسها الي طلاب المعاهد والجامعات المتخصصة في هذا الشان