الأغنيات وثائق تاريخية في متاحف الذائقة

الخرطوم : الراكوبة
الوسائط التي توثق للتاريخ الإنساني ومسيرة الأحداث الكونية كثيره منها ما يدُون في الكتب من خلال الباحثين المختصين ومنها ما يكون في شكل “فلكور” وآخر يتداول بين الناس شفاهةً ، ومن التاريخ الذي يتداول بين الناس شفاهةً “الأغنية” ولعل والمستمع لكثير من الأغاني في الحيز السوداني مثلاً سيكنشف أنها طالما إحتوت على ذكر أحداث وروايات دارت في الماضي (صراعات الممالك مع بعضها ، ذكر أبطال ومخلصين ، الكفاح ضد المستعمر ، لحظات الإستقلال ، ثورة أكتوبر ، إنتفاضة أبريل ، ….الخ) . لذلك يعتبر النقاد أن الأغنية موثق تاريخي إساسي في الحياة الإنسانية بيد أن الكثير منهم يشكك في أمانة السرد التاريخي فيها ويعتبرونها نتاج لعملية تفاعل شاعر ينظر للأحداث بزاويته الخاصة ودون وصفها كما هي ومع عدم مراعاة الرصد الدقيقة .
موثق غير أمين :
المشكُكون في الأمانة التاريخية للأغنية يسدلون بالعديد من النماذج والتبريررات التي تدعم موقفهم ومنها على سبيل المثال نشيد الإستقلال الذي تغنى به الفنان الراحل محمد وردي التي يقول فيها متحدثاً عن معركة كرري
كرري تحدثُ عن رجال كالاسود الضارية
خاضوا اللهيب وشتتوا كتل البقاءة الباقية
والنهر يطفح بالدماء القانية
ما لانا فرسان لنا بل فر جمع الطاغية
علماً بان الوقائع التاريخية تتناقض مع ما ذهبت اليه الأغنية فموقع المعركة كان في جبل كرري والسهل المقابل له وليس على شاطئ النهر لكي تطفح الدماء وثانياً الهزيمة والفرار لم تكن (لجمع الطاغية ) كما ذكرت الأغنية وإنما كانت للقوات المهدية .
من المشككون الصحفي القذافي الياس الذي يشير الى أن الشاعر أصلاً موثق غير مؤتمن لأنه يكتب وفق أغراض محددة دوافها التعبئة والتمجيد ومنطلق من موقف نفسي محكوم بالإنتماء الثقافي والسياسي وليس كموثق الأكاديمي الذي يعكس الأحداث بحقائقها المجردة من أي تحيزات أو تلفيق .
أمانة التوثيق :
الجانب الأخر الذي يقر بأمانة الأغنية في التوثيق التاريخي يوضح أنها تقدم الأحداث والوقائع بشكل محبب و بسيط بعيد عن الكتابات “المعسمة” بالإضافة إلى أن الحدث المثار في الأغنية يضمن صلاحية التدوال بخلود الفنون التي تتناقل بين الأجيال دون الوقوع في كمائن النسيان . ويستدلون من جانبهم بالعديد من الأمثال والاحداث التي حملتها الأغنية السودانية ووثقت لها مثل (بطوله ود حبوبة ، والأكتوبريات ، والإستقلال نفسه) .
ويشير المقرون بأمانة التوثيق الى أن الاغنية التي ترصد حدث عاصرت أزمنة وقوعه هي الأكثر صدقاً خاصة غذا راجت في نفس المجتمعات التي عايشت الحدث وتدري الحقائق ، وبالتالي لن تتفاعل مع الأغنية إذا احتوت على أكاذيب ، ويضيفون : وحتى إذا تقبل تلك المجتمعات الأغنية مع وجود علات تنافي الوقائع فذاك فتح تاريخي أخر يجتهد فيه المنقبون حول الأسباب التي أدت إلى ذلك القبول ، لان سؤال التاريخ ـ بزعمه ـ تعدى الأجابة عن (ماذا حدث ؟) (ذكر الأخبار و الوقائع) الى الاجابة على (لماذا حدث؟) (الاسباب والدوافع). اما الأغنية كما يقولون التي تحكي عن حدث تاريخي سابق وهي صدرت في أزمنة لاحقه يمكن أن تعتريها بعض المزايدات و(التلفيق) رغم أن اغلب تلك الخيانة تتم لاغراض شريفة مؤكدين بأنها هنا لا توثق للأحداث السابقة بقدر ما توثق للحظة خروجها والمجتمع التي راجت فيه .
التوثيق الشامل :
التوثيق الغنائي ليس مقصور في رصد وعكس الأحداث السياسية فقط ولكن من خلال تفكيك الأغنية يمكن من خلالها أن تقيس الحالة النفسية التي كان يعيشها المجتمع لحظة ميلادها ، لأن الأغنية محمول ثقافي يختزل في دواخله الآمال وآلالم وسقف الصموح والتحديات على كل المستويات . ومن خلال عملية التفكيك يمكن أن تكتشف مدى العاطف المسموح به في المجتمع التي قيلت فيه كذلك أكبر الأشكاليات التي تواجه المجتمع والقضايا التي تشغله ،الاغنية هي مرآة المجتمع . وكذلك توثق للبيئة وحركة المجتمع من عبر الإيقاعات التي تُقدم من خلالها مثلاً اذا كنا نعيش الآن في عصر السرعة سنجد أن أغلب الإيقاعات التي تُؤدى من خلالها أغنيات خفيفة وذات (رتم) سريع وكذلك اذا رجعت بالبحث في الأغنيات ذات المقدمات الموسيقي الطويلة سنكتشف انها قيل في زمن كانت مختلفة من حيث الحركة وتفاعل الحياة . الأغنية أيضاً تعتبر الموثق الأكثر أمانة في عكس القيم السائد في المجتمع سوى كان سلباً او إيجاباً فضلاً عن الكلمات المتدواله فيه .
أخيراً :
عموماً الأغنية لم تعد ولم تكن أصلاً إداة تطريبية فقط وإنما هي موثق حقيقي يمكن من خلاله تحليل حركة المجتمع وأنماط حياته وثقافته وتاريخه السياسي والفكري بل وطموحته وآماله ..للتعرف على اي امة ما استمع الى موسيقتها والى اغنيات تقس حضارتها
معركه كرري كأنت من البواخر التي كانت تحمل مدفع ماكسيوم الجديد والذين قتلوا من الانجليز كانوا داخل الباخره وسالت دماهم للنهر صلح معلوماتك يا كاتب المقال