مقالات وآراء سياسية

عبد الرحيم أبو ذكرى

كمال الجزولي

أيُّها الحفل الكريم،

مسَّاكم الله بالخير،

أرجو أن تسمحوا لي بأن أشدَّ على أيدي كلِّ الأخوات والإخوة في “المنتدى الثَّقافي” المرموق الذي تنظمه بمدينة جدَّة “جماعة محبي مصطفى سيد احمد” على اهتمامهم هذا بعبد الرَّحيم أبو ذكرى، حبيبنا الرَّاحل في الليل وحيداً، شاكراً لهم دعوتي لهذه المشاركة معهم، عبر الهاتف من الخرطوم بحري، في هذا الحفل الذي يصادف ذكرى رحيله الفاجع، حيث أن علاقتنا كانت قد تجاوزت محض الزَّمالة خلال سنوات الدِّراسة الجَّامعيَّة، ما بين أواخر ستِّينات ومطالع سبعينات القرن المنصرم، بل تجاوزت حتَّى الصَّداقة العاديَّة، لتشـكِّل فصـلاً بأكـمله من فصـول حـياتينا فـي شــرخ الشّـباب، واللتين قـيِّض الله لنـا أن نقضيهمـا فـي دفء رعاية أستاذنا، وصديقنا، وحبيبنا، وأبينا، وأخينا الأكبر، وعرَّابنا الشَّاعر الضَّخم جيلي عبد الرَّحمن، عليه رحمة الله ورضوانه.

 

لذا أستأذنكم كي أركِّز مساهمتي هذه، في حدود الحيِّز الزَّمني المتاح، وفي سياق سيرة أبي ذكرى الباذخة، على مسألتين أراهما معتمتين شيئاً، إمَّا لأنَّهما لم تُحظيا، من قبلُ، بالاهتمام اللائق، أو حظيتا، لكن ليس بالقدر الكافي من الإضاءة:

 

المسألة الأولى:

 

تتَّصل بالخلط والتَّخليط اللذين يقع فيهما كثيرون، للأسف، بشأن علاقة المرحوم بالحزب الشِّيوعي السُّوداني، وما إن كان عضواً فيه أم لا. وهي، بالفعل، علاقة جدُّ ملتبسة، إن لم يتم توضيحها. وكان قد بدا لي كافياً، في السَّابق، ما كنت أدليت به حولها من شهادة، ضمن كتابي حول الرَّاحل بعنوان: “نهاية العالم خلف النَّافذة”. لكنني ما لبثت أن اكتشفت أن شهادتي تلك لم تتَّسم بالوضوح المطلوب، ربَّما بسبب الكثافة النِّسبيَّة للإفادات التي أدليت بها، من شرفة فلاديمير مايكوفسكي، حول مقاربة تأثيره العميق على أبي ذكرى، وعليَّ شخصيَّاً، في ما يتعلق بالماركسيَّة فكريَّاً، وبمدرسة “المستقبليَّة Futurism” إبداعيَّاً.. ربَّما!

 

وفي الحقيقة فحسب المعلوم من سيرة جيلنا أن معظم من اختاروا فيه الانتماء إلى الحزب الشِّيوعي فعلوا ذلك منذ يفاعتهم الفكريَّة والسِّياسيَّة الباكرة، في مطالع المرحلة الثَّانويَّة بالنِّسبة للأغلبيَّة، أو في خواتيم المرحلة الوسطى بالنِّسبة للبعض؛ بينما أبو ذكرى، وإلى حين مغادرته الوطن لمواصلة الدِّراسة بموسكو عام 1966م، وكان، وقتها، في سنته الدِّراسيَّة الأولى بكليَّة اﻵداب بجامعة الخرطوم، لم يكن قد اختار، بعدُ، هذا الانتماء، وتلك هي المسألة التي تحتاج لتوضيح. فما حدث، بالضَّبط، هو أنَّه كان قد نشر بصحيفة “الميدان”، في 15 أكتوبر 1965م، قصيدته الشَّهيرة “أمير المؤمنين” يذمُّ فيها “الأخوان المسلمين”، ويسخر منهم، منشداً: “الوُزَرَاءُ فَوْقَ رَأْسِهِمْ ذَبِيبَةُ الصَّلاةْ/ يُحَارِبُونَ كُلَّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ بِالذُّقُونْ/ وَيَحْمِلُ الوَزِيرُ (طَارَهُ) إِلَى الوِزَارَةْ/ ويَدْخُلُ المُبَخِّرُونَ صَالَةَ الخَلِيفَةِ المَيْمُونْ/ يُهَمْهِمُونَ أَوْ يُسَلِّمونَ أَوْ يُحَوْقِلُونْ”، فأصدرت (الجَّماعة) بياناً نشرته، بتاريخ الأربعاء 17 أكتوبر 1965م، على الصَّفحة الأولى من صحيفتها (الميثاق الإسلامي)، رمته فيه بالكفر، وأباحت دمه، فأضحى مستهدفاً بخطر عظيم، فاستشعر الحزب مسؤوليَّته تجاهه، رغم أنه لم يكن عضواً به، فتحرَّكت قيادة فرعه بجامعة الخرطوم، وأجرت اتصاﻻتها، حيث تمَّ، أوَّلاً، تسريبه إلى بعض أحياء العاصمة، لإبعاده من أجواء الخطر المحدق في الجَّامعة وداخليَّاتها، ريثما رُتِّبت إجراءات سفره لإكمال دراسته بموسكو. وما أن استقرَّ به المقام هناك حتَّى اتَّخذ قراره، من تلقاء نفسه، بتقديم طلب للانضمام إلى الشِّيوعيِّين السُّودانيِّين بفرع حزبهم بجامعة الصَّداقة “لومومبا”، بالمفارقة لاستعداده الذِّهني، ومزاجه الشَّخصي، وتركيبته النَّفسيَّة، وكلها أبعد ما تكون عن ممارسة النَّشاط الحركي، رغم تأثُّره الفلسفي بالماركسيَّة، والفرق بينهما جلي.

 

مهما يكن من شيء، فإنني أعتقد، بحكم معرفتي به، والتي يعلم الكثيرون كم كانت وثيقة، أنه ما فعل ذلك إلا كضرب مِمَّا اعتبره هو ردَّ جميل في لحظة جيشان عاطفي لم يخضع لأيِّ حسابات، رافضاً، بعناد، أن يستجيب لنُصح أصدقائه ومحبيه، وفيهم شيوعيُّون كثر، بالتَّراجع عمَّا اعتزم، كونه لا يناسبه، وكونه لا يتقرَّر بمحض العاطفة الجَّيَّاشة. لذا، عندما طلب الانسحاب، متعللاً بظروفه الصِّحِّيَّة، بعد ما لا يزيد كثيراً على ثلاث سنوات، وفي لحظة كانت الخلافات فيها قد تفاقمت داخل الحزب، بسبب النشاط الانقسامي التَّخريبي لمجموعة المرحومين معاوية سورج وأحمد سليمان، وانعكاس ذلك في محيط الطلاب الشِّيوعيين السُّودانيِّين بالاتِّحاد السُّوفييتي، قوبل طلبه ذاك بتفهُّم تام، فغادر بلا ضجيج، وقد كان، أصلاً، قليل المشاركة في النَّشاطات الحركيَّة، محتفظاً بقناعاته الفكريَّة الماركسيَّة، وباقياً على محبَّته الشَّديدة للأدب والفنِّ الرُّوسيَّين، والاشتراكيَّين، ولنمط الحياة السُّوفييتيَّة التي كانت تتَّسم بالبساطة، وبالبعد عن التَّعقيد، وما تحقَّق للعمَّـال والفلاحـين من مكاسـب، خصوصـاً في الجـانب المـادِّي.

 

المسألة الثَّانية:

 

تتَّصل بواقعة انتحاره، وبمدى صحَّتها، وبما إن كان يجدر الكشف عنها أم غطُّها في ظلمة النِّسيان. فهي، أوَّلاً، واقعة ثابتة، بالنِّسبة لي شخصيَّاً، ليس، فقط، من يوميَّة تحرِّي شرطة موسـكو، فحسـب، وقـد وقف على تفاصـيلها التي نقلها لي أصـدقاء مشـتركون، على رأسهـم القاص والشَّـاعر والكـاتب الكـبير بشـرى الفاضـل، ولعلكـم تنعمـون الآن بحضـوره بينكـم، متَّعـه الله بالصَّحة، والعافية، وطول العمر، والمزيد من الإبداع، والجَّوائز المستحقَّة، بل ومن جملة مقدِّمات وملابسات منطقيَّة في سياقها التَّاريخي، ليس أقلَّها خطاب المرحوم لي، قبل ذلك بتسعة عشر عاماً، وبالتَّحديد في منتصف يونيو 1970م، والذي وثَّقت لصورة منه، بخط يده، ضمن ملاحق كتابي عنه الذي سلفت الإشارة إليه، حيث شكا، في ذلك الوقت الباكر، مِمَّا وصفه، استلافاً من بعض أشعار ود المكي، بأنه “ينشكُّ على روحه أوتاد”، ومن إحساسه بأن “في داخله شخصين”، لا شخصاً واحداً، وأنه “يفكِّر جدِّيَّاً في ذلك (الشَّئ المخيف) الذي تحدَّث عنه ماياكوفسكي في وصيَّته فقال: لا أنصح أحداً به، ولكن لا مخرج لي سواه”، وفي ذلك، لمن يلمُّون بأدنى طرف من سيرة الشَّاعر الإشتراكي العظيم، إشارة جهيرة إلى “الانتحار”! ومن تلك المقدِّمات والملابسات المنطقيَّة، أيضاً، ما لاحظه أصدقاء وزملاء وأساتذة كثر، حول معاناة عبد الرَّحيم من اكتئاب واضح، قبل فترة قصيرة من فاجعة انتحاره، وبينهم أستاذ الموسيقى عاصم خليفة، والسِّينمائي صلاح شريف، والبروفيسير المستشرق فلاديمير شاقال، الذي أشرف على رسالته للدُّكتوراه، وغيرهم، وقد وثَّقت، أيضاً، في الكتاب المذكور، لملاحظاتهم تلك، والتي تشير كلها، بأكثر من إصبع، إلى تلك النِّهاية وحدها، لا إلى أيِّ شيء آخر!

 

وإذن، فمن حقِّ أبي ذكرى علينا، أجمعين، الإقرار بواقعة انتحاره، وجعلها مدخلاً لدرس مرموق حوله، لا إنكارها!

 

وبالإضافة إلى كلِّ تلك المقدِّمات والملابسات، فإن الإرهاص بتبدُّد المكاسب “الماديَّة” للاشتراكيَّة، في إثر المغامرة غير المحسوبة باسم البريسترويكا “إعادة البناء” والغلاصنوست “الشَّفافيَّة”، دون تحقيق أيِّ قدر من الحريَّات السِّياسيَّة، فضلاً عن عودة العسكريتاريا، ضغثاً على إبالة، للانقضاض، في السُّودان، على الدِّيموقراطيَّة الثَّالثة. كلَّ ذلك كان فوق أيِّ مزيد من طاقة أبي ذكرى على الاحتمال، لا ذهنيَّاً ولا وجدانيَّاً؛ فأقدم على تنفيذ ما كان باح لي به، قبل عقدين من ذلك، قائلاً: “ألا حلَّ له سواه”، كمايكوفسكي حرفيَّاً! وكما قلت فقد وثَّقتُ لذلك ضمن سيرته وخياراته التي يتوجَّب احترامها، طالما أنه لم يكن بمستطاعي، أنا أو غيري، الحيلولة دون حدوث ما حدث، ورغم أن بعض أقاربه، وفيهم شقيقه المرحوم عثمان احمد عبد الرَّحيم، كانوا وقفوا ضدَّ ما فعلت، بل حاولوا إخافة بعض النَّاشرين، كصديقنا نور الهدى محمَّد نور الهدى، صاحب “دار عزَّة للنَّشر”، بإيذائه إن هو حاول تنفيذ اعتزامه وضع “كتابتي التِّذكاريَّة” في مقام المقدِّمة للطبعة الثَّانية لديوان “الرَّحيل في الليل”! لكن الكتابة شقَّت، مع ذلك، طريقاً آخر إلى القراء، وانهمرت بعدها، وعلى ذات خطها، كتابات غزيرة تنقِّب في سيرة الرَّاحل العزيز، وتوثِّق له، وتخلد شعره؛ ونذكر، هنا، على سبيل المثال، الباحثة اللبنانيَّة جمانة حدَّاد التي استخدمت كتابي المذكور وديوان الفقيد ضمن مراجعها لوضع مؤلفها القيِّم بعنوان: “مائة وخمسون شاعراً انتحروا في القرن العشـريـن ـ مخـتارات تضـئ ليـل الشُّـعراء المنتحـرين”، وقـد وثَّقَـت فيه لسـيرة فقيدنا وعمله، جنباً إلى جنب مع خليل حاوي، مثلاً، وآخـرين. كمـا استحسـن عبد الله علي ابراهيم مدخلي للكتابة عن أبي ذكرى بقوله: نستلهم تلك الكلمة الغرَّاء عن انتحار أبي ذكرى، فحرج المسألة المعلوم لم يمنع كمالاً من الخوض في موته من حالق بكلمة مكتوبة بماء الحساسيَّة، ولم نزدد بفضل تحرِّي كمال الوثيق علماً بموت الشَّاعر فحسب، بل وبجغرافيا العوالم الغرَّاء التي ناشدها يوماً أن تنتظره “انتظرني في حفيف الأجنحة/ وسماوات الطيور النَّازحة/ وقت تنهدُّ المدارات/ وتسودُّ سماء البارحة”!

 

وكان مِمَّا قلت، في صدر كتابي ذاك عن الرَّاحل، إن “من حقِّ أبي ذكرى على الجَّميع ألا يسمحوا .. بانتزاع واقعة انتحاره من مجرى التَّاريخ الأدبي في السُّودان، لتُقبر في طوايا الحياء الاجتماعي المتخلف، والنَّجوى الخاصَّة المحضة، ولا خير في كثير منهما”!

 

أيُّها الحفل الكريم،

لا أطيل عليكم، وأشكركم مرَّةً أخرى، وأترحَّم على روح صديقي الحبيب، رضوان الله عليه، راجياً أن نواظب على إحياء ذكراه، وإضاءة ليله، ما حيينا، فلَهوَ أغلى وأجلُّ على قلوبنا من أن يُنسى؛ وسلام الله عليكم.

 

كمال الجزولي

ضاحية الهجرة ـ بحري

[email protected]

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..