“مريم ماكيبا” …حكايات و اغنيات التفرقة و المنفى

كتب : محمد الاقرع
الصوت الغنائي القادم من افريقيا دائماً يكون مسكون بأنين جراح القهر والحروب فيستجدي من كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد ، واحيانا أخرى يكون هياج صارخ يخيف من يمارس الظلم ويتشدق به ، لذلك يظل الصوت الأفريقي هو الأكثر صدقاً وتأثيراً حتى ولو قيل بلغات محدودة الانتشار ، ولعل (مريم ماكيبا) هي مغنية بذات موصفات الصوت الذي يجذب الأنقياء ويرهب الأشقياء ، ويحكي الراوي انه في الرابع من مارس سنة 1932 في ضاحية (سويتو) خارج جوهانسبرغ سمع الناس صوت بكاء طفلة مع بذوق الفجر صادر بطريقة هارمونية مطربة أثار شيء في نفوسهم لم يعلموه حينها ولكن تتبعه الناس حتى أدركوا أنه أتى من الأنثى حديثة الولادة “زينزي”وهو الأسم الحقيقي لمريم ماكيبا ، وهو تصغير لاسم “أوزنزيل” الذي يعني “لا تلومن إلا نفسك” .
ويحكى أيضاً أنها عانت طفولة بائسة تتخاطفها الأحزان من كل جانب ، على المستوى الأسري ، مات أبوها وهي في الخامسة واجتاحها ضنك العيش ، وكذلك على مستوى الوطن (جنوب افريقيا) الذي كان يشهد اسوأ فترة مجتمعية فقد كان يطبق آن ذاك نظام التميز العنصري ضد السود وبإعتبار أنها منهم وصلتها يد الصفع ، ولكن حين تفتح وعيها تركت ترنيم الكنيسة الوادعة التي كان تؤديها وحفلات الزفاف التي كانت تحيها لتحي بصوتها ثورة رفض تلهب أبناء جلدها وتحرضهم على عدم الرضوح والاستسلام ، بالطبع هذا المنحى لم يعجب الطرف الأخرى الذي جردها مباشرة من الجنسية والوثائق الثبوتية لتبدأ رحلة المنفى التي حطت أولى محطاتها فيها بالولايات المتحدة التي ستشهد هي أخرى ميلاد في جيز أخر (التمثيل) ولكن في نفس إطار القضية (رفض التميز العنصري) فقد شاركت في الفليم التسجيلي (عودي يا افريقيا) وقبل ذلك اختار اسم (مريم) ليكون بديل “زينزي” .
استغلت “ماكيبا” منصة الإعلام هناك لتوصيل قضايا شعبها وموسيقى القارة الأفريقية التي مزجت بين إيقاعاتها المحلية وموسيقي الجاز والبلوز لتخرج بالحان محفزه دون ضجيج من أشهرها (باتا باتا) و (رنين الأغنية) و(مالايكا) .
انضم “ماكيبا” أثناء تواجدها في الولايات المتحدة إلى المجموعة الغنائية الشهيرة (منهاتن براذرز) .
في العام 1960 ماتت والدتها قرارت “ماكيبا” أن تحضر مراسم التشييع والدفن ولكن السلطات في “بروتوريا” رفضت ذلك ، تغلبت على الأحزان من جديد لتشهد فترة الستينات أنصع فترات نجوميتها فقد حصد العديد من الجوائز العالمية .
تزوجت “مريم” من (ستوكلي كارميكايل) وهو أحد قادة حركة القوة السوداء ولكن لم يروق هذا الزواج للسلطات هناك التي لم يكن نظمها وقوانينها بعيدة كثير عن نظام (الأبارتايد) أبلغوهم على عجل انهما غير مرغوب فيهما في الولايات المتحدة ، رجعت إلى وطنها الكبير “افريقيا” وإختار “غينيا” وهناك إحتفى صوتها بكل حركات الإستقلال والتحرر التي كانت تجتاح المنطقة .
غنت للثورة الجزائزية باللغة العربية كما تغنت ايضاً بلغات عديدة منها لغتها الأصلية (خوسا) والانجليزية وكذا باللغة البرتغالية والإسبانية واللغة (اليديشية) وهي لغة جرمانية ومن أشهر أغنياتها باللغة العربية دخل عيونك حاكينا …لوما عيونك ما جينا)) .
العيش في “غينيا” لم يخلو من أحزان فقد ماتت ابنها الوحيدة وانفصلت عن زوجها بعد ذلك ظلت متنقله بين بروكسل ولندن وايطاليا إلى أن رجعت لوطنها بطلب من الزعيم “نيسلون مانديل”ا عقب خروجه من السجن .
وثمة قائل يعتقد أنها رمز افريقي لا يقل شهرة وأهمية وتأثيراً عن الزعيم “نيلسون مانديلا” ، قائد ثورة السود في “جنوب أفريقيا” ضد التمييز العنصري، بإعتبار أنها أيضا حملت بين جوانحها آلام أبناء جلدتها الذين اضطهدهم البيض يوم كانوا لا يرون فيهم أكثر من عبيد، ولئن كان “مانديلا” قد حمل جمرة التمييز العنصري (27) سنة بين القضبان في سجون نظام “بريتوريا” العنصري، فقد حملتها هي بين جنبيها ومضت تطوف بها أرجاء العالم طوال (31) سنة في المنفى ، ولعل “مانديلا” نفسه كان يقول عنها :(كانت ـ أم صراعنا ـ وسيدة الغناء الأولى في جنوب أفريقيا، لأنها أصبحت رمزاً لنضالنا ضد العنصرية) .
بعد عودتها الى “برتوريا” افتتحت مركز لتأهيل الفتيات المشردات .
وفي نوفمبر من العام 2008 وخلف كواليس أحد المسارح في “ايطاليا” أعلن ذلك الصوت الرحيل عقب المشاركة في حفل نظم لصالح ستة افارقة قتلتهم “المافيا” . رحل ذلك الصوت وحسبوه سيموت (فإذا بالصوت حيٌّ في ملايين البيوت…..في وجوه كالحات لم تجد في الأرض قوت ….في جسومٍ هدّها البؤسُ وأضناها السّكوتْ )
قالت “مريم ماكبيا” في مذكراتها او كتاب قصة حياتها : “إنني أغني حول الأشياء التي تحيط بي، ومحيطنا كان على الدوام مليئاً بالمعاناة، لذلك تأثرت موسيقانا بكل ذلك …لم أغن للسياسة بل للحقيقة”…. وأصوات الحقيقة لا تموت .



