ضد الغوغاء.. تسوية سياسية ونهضة مجتمعية

من المُثير للقلق – بمعناه التجريدي – أن يعتبر بعض المثقفين والناشطين السياسيين، أن ثمرة ما بعد الثورة (الحكومة الماثلة)، حكومة ثورة!، وبغض النظر عن المواقف المتباينة منها، إلاّ أن التعريف الدقيق – بحسب وجهة نظري الشخصية – أنها حكومة تسوية سياسية بين من يُعتقد أنهم يمثلون الثوار (قحت) وبين طيف عسكري يمثل النظام السابق (اللجنة الأمنية/ المجلس العسكري)، بهدف تحقيق عملية الانتقال الديمقراطي أو الإيعاز بذلك.
بطبيعة الحال، لن تحقق حكومة التسوية السياسية متطلبات الثورة – وربما تتقاعس حتى عن إنجاز اليسير منها – لكن لا خيار أمامها إلاّ المضي قُدُماً في سبيل صياغة أساليب وقواعد (ربما على مقاس) الأطراف المشاركة فيها، وطرحها للتنافس السياسي القادم بطرق سلمية، وصولاً إلى وضع دستوري ديمقراطي، وتنظيم انتخابات نزيهة وحرة، وتوسيع نطاق المشاركة السياسية باعتبارها معياراً وحيداً لنمو النظام السياسي ومؤشراً دالاً على ديمقراطيته.
لا شك، أن إجراءات التحول من نظام سلطوي مستبد قامع وفاسد إلى نظام ديمقراطي يعتمد على الاختيار الشعبي الحقيقي، وعلى الانتخابات الحرة النزيهة كوسيلة لتبادل السلطة، ما يتطلب إصلاحاً جذريِّاً في بنية وهياكل الأحزاب الراهنة، حتى تتمكن من إجبار أطراف التسوية الأقوياء (تحالف العسكر مع زعماء المجتمعات المحلية والأحزاب التقليدية الكبرى وحركات الكفاح المسلح) على اعتماد الخيار الديمقراطي دون المفاهيم الطارئة والتي كانت مقبولة ومناسبة في العهد البائد، لجهة أنه نظام سلطوي مستبد وفاسد، كما أسلفنا، لكنها لم تعد كذلك في السياق الديمقراطي الراهن والقادم، فلا يمكن القبول بمفهوم (تقاسم السلطة والثروة) مثلاً، في ظل نظام ديمقراطي تداولي يجعل من الناس أحراراً ينتخبون من يشاؤوا، ولو كان شيطاناً رجيماً.
لكن ما يلوح في الأفق الانتقالي الماثل، فيه الكثير من مخلفات (جاهلية) النظام الإسلاموي المستبد المنصرم، فما نراه من تجييش وحشد للقبائل لدعم من يعتقد أنه قائد فذ أسطوري بيديه مفاتيح الحل وخزائن الحكمة، وباعتباره سيحقق للإقليم المحدد أو الكيان القبلي المُعيّن طموحاته وآماله بالمشاركة في السلطة والعمل على حيازة هذه الجماهير الحاشدة على أقدار كبيرة من التنمية (الثروة)، إنما هو مجرد وهم كبير، لجهة أن لا أحد من هؤلاء الزعماء القبليين والثوريين حقق لمن يسميهم (شعبه/ أهله/ عشيرته) ولو القدر اليسير من الاستقرار والنماء في تاريخ البشرية كلها، دعك عن السودان! وإنما يسعى فقط لتحقيق مكاسب شخصية مستغلاً هؤلاء البسطاء.
إذا أرادت هذه الحشود البشرية أن تحقق أهدافها وطموحاتها، عليها أن تنفض أولاً ممن يسمون بالزعماء أو القادة (تنزعهم من دماغها)، ثم عليها أن تنخرط في أحزاب مدنية أو تؤسس أحزاباً خاصة بها تعبر عن أحلامها وفكرها وطموحها، وأن تأتي بقادتها في الانتخابات عبر الآليات المعروفة (البرامج/ الدعاية السياسية/ الصندوق).
والحال هذه، وما لم يحدث ذلك، فإن هذه المجتمعات ستظل غارقة في رثاثتها إلى يوم يبعثون، لن تتقدم قيد شبر مما هي عليه الآن، فما لم تنخرط في السياق الديمقراطي القائم على مبدأ (الفردانية) في الاختيار السياسي الحر، وتتخلى عن عقلية القطيع المُلتف حول فرد وكأنه (المسيح المُخلص)، فإنها ستنحدر إلى ما هو أسوأ مما هو قائم اليوم، لذلك عليها أن تعي أن الخضم الديمقراطي يجب ما قبله من (جاهلية) ويقضي عليها تدريجياً قضاءً مبرماً، فلن يكون هنالك دور سياسي في السنوات القادمة لزعيم قبلي ولا لتاجر حرب مهما روّج لكونه (ثوري)، فالثورات القادمة وإن حدثت لن تكون مسلحة، وإنما سلمية.
وعليه، فإن عملية التحول الديمقراطي قمينة بأن تأخذ المجتمع كله من وضع إلى آخر أفضل من سابقه، يتميز بمبدأ التداول على السلطة السياسية، من خلال حق الأغلبية التي يفرزها التعبير الديمقراطي الحر والتنافس الحزبي التعددي، في إطار احترام حقوق الإنسان وحرياته وشخصيته الحضارية في المستوى الأول، ويفترض أن يتجسد هذا التحول داخل المنظومة الاجتماعية والثقافية والسياسية للأمة أخذاً وعطاءً في المستوى الثاني.
عبد الجليل سليمان
اليوم التالي