
في أول مؤتمر صحفي لرئيس الوزراء عبد الله حمدوك تطرق لقضايا كثيرة تهم الشعب السوداني والمجتمع الدولي المتحفز لمعرفة توجهات الحكومة المدنية الجديدة المنوط بها إصلاح الخراب الذي طال جوانب كثيرة من الحياة السياسية والاجتماعية في السودان .. وبالرغم من القضايا الهامة التي تناولها في حديثه وفي إجاباته على أسئلة الصحفيين لفت نظري جملة واحدة بسيطة غير أنها عميقة تلخص بإيجاز الأزمة بأسلوب السهل الممتنع كما عناه البحتري في النقد الأدبي .. الجملة وقد اخترتها عنوانا لهذا المقال ” نقع ونقوم لحدي ما نصل“ .. وحسنا فعل أنه قالها بالعامية وبنفس الجرس والتنغيم المشبع باللهجة والثقافة الشعبية في السودان ..
نقع ونقوم لحدي ما نصل : تعبير عميق يحدد الآلية الواقعية لتحقيق الأهداف الطموحة التي حددتها الحكومة المدنية بعيدا عن العنتريات الكذوب التي تطلقها الحكومات الديكتاتورية .. هذا التعبير البسيط العميق لمس لباب النظام الديمقراطي من ان لا يتوقع أحد أن يكون نظاما مثاليا مطلق الكمال والإتقان وإنما هو نظام يصلح نفسه أثناء الممارسة إضافة إلى أنه حكم يقوم على المؤسسات وحكم الشعب يشارك فيه الجميع فليس هناك مكان للقائد الملهم الذي يمتلك كل المفاتيح لحل المشكلات .. وكلنا نعرف ما عانته البلاد من أمثال هؤلاء القادة الذين توهموا انهم يمتلكون معارف شاملة تميزهم عن بقية الشعب وكما تقول الحكمة كما صورها الفيزيائي البريطاني ستيفن هوكنج : إن أعظم عدو للمعرفة ليس الجهل، وإنما وهم المعرفة ..
وتخبرنا تجارب التاريخ أنه لا يوجد نظام ديمقراطي حر كاملا بدون عيوب ولكن يظل هو أفضل نظام لمقاومة الطغيان ..
وهكذا بدأ حمدوك حكومته وبكل تواضع بهذه المفاهيم التي تؤسس للحكم الواقعي الرشيد .. ولا شك أن حمدوك وهو يرسي دعائم هذا الفكر الديمقراطي الحر على دراية كاملة بأنه سيواجه الكثير من العقبات من أعداء الثورة وربما أيضا من مؤيدي الثورة الذين يستعجلون النتائج .. غير ان حمدوك وطاقمه الوزاري وضعوا صفه التحلي بالصبر هاديا لهم في طريق العبور بالبلاد إلى بر السلامة في هذه المرحلة الحرجة المحاطة بالتحديات ..
ولكن بمرور الزمن برهنت الحكومة المدنية أنها قادرة على تصفية النظام القديم والبدء في تأسيس دعائم دولة القانون حيث يكون الحاكم مفوضا تفويضا حقيقيا من الشعب لخدمة مصالحة عبر مؤسسات السلطات الحكومية الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية حتي تكتمل بالسلطة الرابعة التي تؤثر بقوة في بلورة الآراء في المجتمع المدني المعافي من ثالوث التخلف: الجهل والمرض والفقر ..
د. الفاتح ابراهيم