
معركة التغيير التي نعيشها اليوم في السودان تعتبر صراعا بين ثقافة المستقبل وثقافة الماضي في الفن وفي السياسة حتى في فهمنا للدين وفي كل شئ
زمان تغنى الراحل سيد خليفة للنميري كثيرا أجملها الفارس الجحجاح
ووردي غنى لمايو بأغنية حكياتنا مايو
والبلابل غنوا أبعاج أخوي دراج المحن .
كلمات جميلة والحان رائعة حفظناها ورددناها ولا احد اخد عليهم مأخذ بالرغم من أنه كان نفاقا شعريا وكان مقبولا من الجميع، فالرئيس يحبه ويكافيء عليه والشاعر يعتبره إبداعه الفني والفنان يعتبره إنجاز والجمهور يعشقه لأنه شعر جيد فيحفظه ويردده وهو يعلم أنه محض نفاق. والسبب في ذلك هي ثقافتنا العربية التي درسناها فدرسنا شعر المتنبئ الذي يعيش على عطايا الملوك الذين يمدحهم في قصائده، فقد يعيش سنوات في بلاط سيف الدولة الحمداني يكتب فيه قصائد عظيمة في مديحه ويتلقى منه العطايا وعندما يحس بفتور سيف الدولة نحوه وتقلّ العطايا يغادر الى كافور الإخشيدي ، ثم ينقلب عليه ويهجيه ثم يغادر وهكذا كانت حياته وكنا ندرسه على انه شعر عربي جميل وتحت القصيدة وفي نهايتها تجد نبذة عن الشاعر ولم يتطرق في النبذه على ان هذا الشاعر كانت مهنته النفاق والإرتزاق وأنه منافق بل قالوا لنا شاعر حساس ومرهف فتربينا على ان نفاق الملك شئ مقبول
لم تكن الحضارة العربية وحدها في هذا التقليد، ففي العصور القديمة كان الفنانون الغربيون يعيشون في رعاية الحكام والأمراء في العصر الحديث تخلص الغرب تماما من تبعية الفنانين للملوك وتغيرت ثقافة الكتاب وحتى الجمهور علاقته بالفنان بمدى وقوفه من القضايا العامة .
في عام 2009 أراد القذافي أن يحسن صورته امام العالم فنظم مهرجانا ودعى فيه الكتاب والفنانيين وتمت دعوة الكاتب الاسباني غويتيسولو وكان سيتم منحه جائزة مالية ضخمة المفاجأة رفض الدعوة والجائزة وقال :أنها ضد مبادئه حيث أنها مقدمة من حاكم مستبد سفاح . ولتغطية الفضيحة عُرضت الجائزة لكاتب مصري إسمه عصفور وقبل الجائزة وقال شعرا في العقيد ولو تم عرض الجائزة لأي أديب سوداني في اعتقادي فلن يرفضها لأن الثقافة واحدة وإن المبدع لا يرى غضاضة في مديح الطاغية ويتجاهل جرائمه ويصم آذانه عن صراخ ضحاياه.عندما غنى (عميد أمن)جمال فرفور للمجرم البشير (سير ياريس سير) طلبه أن يسير على جماجم الشهداء وغض الطرف عن جرائمه
الان تغير كل شئ وللأبد والجمهور كتب عهد ثقافي جديد من أهم شروطه نسف ثقافة مديح السلطان ومحوها من العقل منذ الآن فصاعدا سيحاسب الجمهور مبدعيهم من كتاب واعلاميين وصحفيين وفنانين ليس على جودة أعمالهم الفنية او كتاباتهم فقط وإنما على مواقفهم في المجال العام فهذه ثقافة أصبحت راسخة ولا تحتاج الى من يحرض الناس عليها . مثلا ماهو موقف الفنان او الشاعر او الصحفي من الثورة هل دفع الثمن كما دفعه الفنان ابوعركي البخيت أو الشاعر محجوب شريف ؟
وبكثير من الواقعية مازال في جمهور يحتفى بمبدعيه المنافقين ويسمع لهم أمثال فرفور وفي من يتابع قناة حسين خوجلي وفي من يشتري صحيفة المجهر والصيحة ويتجاهل مواقفهم المشينة في تأييد الطغاة والمستبدين فهذا يدل من ناحية أن الثقافة الجديدة التي صنعت الثورة ليست هي الثقافة السائدة في المجتمع وإنما تعاديها ثقافة أخرى وعلمنا التاريخ مهما طال الزمن ستنتصر ثقافة المستقبل على الماضي
لكل مبدع في بلادي قبل أن تسقط سقوطاً مدوياً أعلم أنه لقد تغير كل شي واصبحت الموهبة الفنية مهما كانت قوية وأصيلة لا تغتفر أبدا تقاعسك عن أداء واجبك في التصدى للإستبداد والدفاع عن الغلابة والمساكين .
ياسر عبد الكريم