مقالات وآراء سياسية

حقائق موجعة وبطون جائعـة

محمد عبد المجيد أمين (براق)

لنعترف كلنا ، بلا إستثناء ، أننا ومنذ الإستقلال ، فشلنا فشلا ذريعا في تكوين دولة سودانية  قوية ، واحدة ، موحدة.

لنتوقف قليلا عن خداع أنفسنا والعيش بـ “الأماني” و”التمني” و”سوف” فيما يتعلق ببناء الدولة المنشودة بل ، المفترض تكوينها جبرا ، فكل الذي فعلناه طوال الثلاثة وستون عاما الماضية أن بتنا نتنافس فيما بيننا في تحسين وترقية أوضاعنا الفردية في العلم والمسكن والملبس والمظهر العام وبتنا نتباهي علي بعضنا ونتفاخر بما أحرزناه علي المستوي الشخصي ، متجاهلين تماما معني الدولة التي نعيش في كنفها وإكتفينا بوسمها بـنفايات “كوش” علي أعتاب منازلنا وفي الطرقات.

لم نفعل كغيرنا من الدول التي نالت إستقلالها من هيمنة التاج البريطاني ، فالهند مثلا ، التي تماثلنا في جوانب كثيرة (التعدد الطبقي ، القوميات ، اللهجات، الملل والنحل) ، نالت إستقلالها ، عام 47، أي قبلنا ، فانظر كيف أصبحت الآن ، عضوا في النادي النووي ، تواجدا وظيفيا مكثفا في أذرع الأمم المتحدة وجهابزة في مايكروسفت. لماذا..؟ لأنها ببساطة عرفت ” لعبة ” السياسية الداخلية ومرامي الأحزاب والإيدولوجيات المستوردة فحيدتها بـ ” التوافق ” وحصنتها بالقانون وزرعت في شعبها حب الوطن زرعا ، ثم تفرغت للعبة السياسة العالمية حتي أتقنتها ، بعدما ” حوطت” لُحمتها الوطنية جيدا ، كي لا يلعب بها الآخريين.

في المقابل ، أنظر ماذا فعلنا نحن…!! في الحقيقة لا شئ سوي إثنان وثلاون عاما متقلبة بين فرحة الإستقلال وإرهاصات الديموقراطية ، تخللتهما ديكتاتورية شمولية ، ثم يأتي من بعد ذلك ثلاثين عاما ، من الأعوام الحنظلية ، أبتلينا خلالها بحكومة ، طمست كل المفاهيم الراسخة والقيم النبيلة وأذاقتنا خلالها مرارة الدنيا وتنعموا هم بنعيمها ، عانينا خلال حكمهم من ويلات الدمار والخراب بسبب حروب داخلية عبثية ، غير مبررة ،  فقدنا فيها ملايين من الأنفس البريئة ، ثم إمتهنا “الشحدة” و “الأرتزاق” والإرتهان للمرابين وبيع ممتلكات الدولة لمن يدفع أكثر. قد يقول قائل : وما لنا نحن الشعب ؟ فالسياسيون هم السبب. قد تكون الإجابة مخجلة والحقيقة صادمة…. نعم، السياسيون هم السبب ولكنا كنا نحن ” المطية” إذ سمحنا لهم أن يعتلوا ظهورنا كل هذه الفترة. إذن ، فالعلة علتان ، نحن.. وهم.

أما عن ” نحن” فعلتنا الفرقة والشتات وحب النفس والتكبر والتعالي علي بعضنا لدرجة الغرور ولا نذكر الوطن فقط إلا في لحظات إنتشاء عابرة ثم ، سرعان ما تعود النفس لتنغمس في “الأنا”. أما “هم” فحدث ولا حرج فساستنا المخضرمين ، وطنهم ، الكراسي وحب السلطة والتسلط وعرض الدنيا هو كل مبتغاهم ، فتمرسوا في هذه الصنعة وإتخذوها منهجا قابلا للتوريث وظلوا يلعبوا بنا إلي يومنا هذا ، حتي أنها صارت أمام مطلب الحرية وحكم الشعب لنفسه كحائط ” برلين” الذي يستوجب سقوطه من المشهد السياسي. هذه هي العقبة الكؤود التي دائما ما تحول دون النهوض بالبلاد.

من لطف الله بنا ، أن واتتنا الفرصة الأن كي ننهض من كبوتنا وقد تغير المشهد بثورة ديسمبر الظافرة ، التي لابد وأن تغير من مفاهيمنا نحو الوطن الحق وهو في طور النمو ، ترسي لبناته الأولي ، حكومة وليدة ، تسعي لإنشاء دولة مدنية ، يتساوي فيها الجميع ، حيث ينعمون ، ربما للمرة الأولي ، بالحرية والسلام والعدالة وما علينا إلا أن نلتف حولها ونشد من أزرها ونصبر عليها ، بالرغم من بعض عثراتها ولا عيب في ذلك ونحن نعرف أنها لا زالت في طور ” الحبيان” ، كما أنه ، لا خوف بعد الأن من أي إعاقة قد تحول بين مبتغانا في الرقي والنهضة ، فقد تعلمنا كيف نهز عروش الحكام الظلمة ولن يغلبنا أيضا ، أن ” نقوم” أمثال قوي الحرية والتغيير ، إن هي جنحت إلي الشطط وتحولت إلي ” تنفير” أو حتي أي جهة أخري  تفكر في النيل من هذه الثورة .

بقي أن ننوه أن الحياة ليست كلها سياسة ، فهناك لوازم حياتية ، لا يحتمل الصبر عليها ، كان من الأحري أن تتقدم الأولويات (أكل وشراب وأطفال ولبن و بمبرز وعلاج ومواصلات ورسوم دراسية) باتت كلها قاسية وصعبة المنال ، مما ينذر بقرب قدوم ثورة سلمية تصحيحية أخري، ليست من الشباب هذه المرة وإنما من أصحاب ” الوجعة” الأسر والعوائل ، يتقدمهم الأطفال  إن لم يُكبح جماح هذا الغلاء المستعر .

 

محمد عبد المجيد أمين (براق)

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..