مقالات وآراء سياسية

حكومة حمدوك وضرورة الصبر عليها..

علي مالك عثمان

لا يختلف إثنان – إلا جاهلٌ أو مكابر – على النجاحات التي يحققها د. حمدوك في إعادة علاقات السودان مع الدول الخارجية، وفك طوق العزلة التي رزحت فيها البلاد طوال سنوات نظام الكيزان، وإعادتها لموقعها الطبيعي بين دول العالم كدولة طبيعية ومتصالحة مع الكل.. تبدَّىٰ ذلك بصورة واضحة في حرارة الاستقبالات والحفاوة التي قُوبل بها في كل تلك البلدان التي زارها..

لكن التحفظات حول أداء حكومة د. حمدوك الإنتقالية وكثرة سهام النقد التي رُمِيَت بها تمحورت بصورة خاصة حول أدائها في الملفات الداخلية، وما شاب ذلكم الأداء من بطء وسلحفائية. وهذا في ظني إتهام صحيح ومفهوم، لأن منسوب التفاؤل الذي ساد نُفوس السودانيين بعد نجاح ثورتهم في الإطاحة بالبشير، وتشكيل حكومة هم راضون، عنها كان كبيراً، مما جعل سقف توقعاتهم مرتفعاً، ونفوسهم تتوق للخلاص وكنس آثار الإنقاذ بأعجل ما تيسر..

وأنا في هذه المقالة لن أُنَصِّبَ نفسي مدافعاً عن حكومة الفترة الإنتقالية في هذه المسألة تحديداً، لأنني أثَرتُ هذا التحفظ في مقالة سابقة، ووضحت خطورة أن يستغل فلول النظام السابق هذا التثاقل في حركة الحكومة، ويقوموا بنقلة مضادة في رقعة شطرنج الصراع السياسي، الشيء الذي قد يعيدهم إلى مسرح الأحداث ودائرة الفعل والتأثير مجدداً. لكنني اليوم سأحاول أن أكون متفهماً ومُحسِناً للظن بمن يديرون دفة الإنتقال من نظام بائد أطاحت به ثورة شعبية، إلى نظامٍ جديد يحاول أن يُرْسي دعائم واقع مختلف تماماً عمَّا كان سائداً. لأن هؤلاء النفر يجب عليهم أن يتحسسوا موطيء أقدامهم جيداً قبل الإقدام على أي خطوة سيخطونها، لأن أيَّ خطوةٍ خطأ قد تُعيد عقارب الساعة للوراء، ويستفيد منها أذناب النظام البائد..

من المعلوم في فقه الثورات بالضرورة أن الإنتقال من نظامٍ جثم على الصدور لسنوات طويلة، أنشأ خلالها دولته العميقة، وصَنَعَ رجاله المنتفعين من بقائه، والمتغلغلين في مفاصل الدولة الإقتصادية والأمنية، ليس بالشيء الهيِّن ولا اليسير. وأن تفكيك بنية ذلك النظام يتطلب حكومة مسيطرة على البلد، من خلال الإمساك الجيِّد على الجيش والأجهزة الأمنية، لتبدأ بعدها عملية التفكيك التدريجي، والتي تبدأ أول ما تبدأ بتنظيف الجيش وجهاز الأمن، وذلك بإزاحة كل من يقف حجر عثرة في طريق التغيير وتنزيل إرادة الجماهير لأرض الواقع. يعقب ذلك تفكيك كل مليشيات النظام وكتائب ظلِّه، وتجريدها من أسلحتها وأسباب قوتها، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة تفكيك شركات النظام البائد وتجفيف كل موارده الماليه، والإستيلاء على كل أمواله المُكتَنزة بعيداً عن أعين الدولة. وهذا يتطلب تناغم وتجانس كبيريْن بين المكون المدني والعسكري داخل الحكومة الإنتقالية.. وهذا في ظني ما كانت تفعله الحكومة الإنتقالية طوال الفترة الماضية دون أن تفصح عنه. لأن مثل هذه الإجراءات بطبيعتها تتم بتكتمٍ شديد ودون إعلان، وتتطلب تمهيداً للمسرح قبل إتخاذها. وما صُدور قانون حل المؤتمر الوطني ومصادرة ممتلكاته مؤخراً، والتأخير الذي صاحبه، إلا دليلٌ على ذلك.

كما أن توقيت إصدار القرار قد يكون أحياناً أهم من القرار نفسه، لأن القرار الصحيح في التوقيت الخطأ قد يترتب عليه نتائج كارثية تهزم القرار، وتجعل من المستحيل تنفيذه في فترة قريبة لاحقة، لأن الخصوم سيستغلون التراجع الناتج من الأثر الكارثي الذي أحدثه في القيام بنقلة مضادة تزيد من مساحة كسبهم. وهذا ما حدث بالضبط لحكومة الدكتور محمد مرسي الأخوانية في مصر خلال سنة حكمهم عاميْ ٢٠١٢م و ٢٠١٣م. فقد قامت تلك الحكومة بأخذ عددٍ من القرارات ذات التوقيت الخطأ، ودون أن تتوفر لها إمكانية تنفيذها، مثل قرار إقالة النائب العام المُعيَّن من قِبل نظام مبارك، والذي كان مطلباً للثوار، مما أجبر الرئيس مرسي على التراجع عنه لاحقاً، مما أفقد حكومته ثقة الشارع فيها، وسهَّل على قوىٰ الثورة المضادة الإنقلاب عليها. لذا لابد من التأكُّد أولاً على القدرة على تنفيذ القرارات، ودارسة كل الأثار التي قد تُحْدِثها، والتحسُّب والتحوُّط لردة فعل الخصوم، وما يمكن أن يقومون به لإفشالها، قبل إصدارها. وعمليات التأكُّد والدراسة تلك ستبدو للناس كأنها بطءٌ وسلحفائية..

لنأخذ مثالاً للتدليل على ما نقول قرار تغيير العملة. هذا قرار مهم جداً لسيطرة الدولة على الإقتصاد، وإعادة الثقة للجهاز المصرفي، وتجريد كل أذناب النظام البائد من الأموال الضخمة التي في أيديهم الآن. لكن تنفيذ هذا القرار يتطلب جهاز شرطة وأمن موثوق في ولائهما للثورة والثوار، لأنه حال إعلان هذا القرار قد يرتفع سعر الجنيه مقابل الدولار لأرقامٍ فلكية، نتيجة محاولة فلول النظام السابق التخلص من كل ما لديهم من عملة محلية واستبدالها بالدولار والعملات الصعبة الأخرى. كما أن هذا القرار يتطلب أيضاً وجود مدراء بنوك تجارية آخرين، غير أولئك الذين كانوا على رأس تلك البنوك خلال عهد المخلوع البشير، لتنفيذه وعدم عرقلته.. وهكذا، نجد أن مثل هذه القرارات المصيرية والتصحيحية ليست بتلك البساطة التي يتخيلها البعض.

في ظني أن وتيرة صدور القرارات الثورية التصحيحية ستتسارع متى ما تم قصقصة أجنحة أركان النظام السابق وتجريده من أدوات ردة الفعل المضادة. لذا دعونا نرقب المشهد عن كثب لمعرفة ما سيقوم به أذناب النظام البائد كرد فعلٍ على قرار حل حزبهم، ومن ثمَّ تقدير حجم الضرر الذي أصابهم، وحجم ما تبقى لهم من قوة. لأنني أظن أن قرار حل حزبهم والتحفظ على ممتلكاته هو أخطر قرار وُجِّه لهم منذ قيام هذه الحكومة الإنتقالية، لذا مرور هذا القرار وتنفيذه دون ردة فعل قوية من جانبهم يعني حتماً أنه لن تقوم لهم قائمة بعده، مما سيساعد على إصدار قرارات تصحيحية تالية ستَمُر بسلاسة ودون مقاومة كبيرة.

لذا أنا أدعو في خاتمة هذا المقال كل الحادبين على الثورة والمخلصين لهذا الوطن، والمُمَنِّين النفس بنظام حكمٍ سياسي مستقر، يرسم مستقبلاً زاهراً لهذه البلاد ويخرجها من دائرة الدكتاتورية والفوضى والإقتتال الأهلي الداخلي الذي أصابها منذ إستقلالها، أن يثقوا تمام الثقة في حكومة الفترة الإنتقالية برئاسة د. حمدوك، لأنها ببساطة لا يمكن التشكيك في إنتمائها للثورة والثوار، كما أنه لا يوجد بديلاً عنها لإنجاح الفترة الإنتقالية وصنع السلام المستدام والعبور بالبلاد نحو النظام السياسي المستقر والمستقبل المشرق بإذن الله.. والسلام.

علي مالك عثمان
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..