مقالات وآراء

إطلالات على قضية جبال النوبة .. إتكاءة على شفير التاريخ

نكتب هذه الإطلالات توافقاً مع جولة أوسع أملاً، وأدنى لثماً لثغر السلام، فقد آن للسيف أن يُغمد فقد شكى مِرار شحذ حدِّه، وللحق أن يُقطف فقد أتى أوان ينع ورده، نكتب حفزاً للذاكرة فلا تنسى، وتطبيباً للقلوب فلا تُعلُّ، وتلييناً للمواقف فلا تتيبس، لكل هذه الأضداد نكتب، فلا بد أنْ نشقَّ لنا طريقاً وسط الجبال لا بد.
هكذا لاح تاريخهم، متلبساً بعذاباتهم، معجوناً بها أول ما لاح في سهول كردفان ووديانها، يتنزحون منها اضطراراً يتصعدون صعيدها فراراً من رمية رامٍ، أو جنوحاً من خطفة خاطف يتعقبهم صيداً وقتلا وتشريداً، لا ندري متى بدأ هذا، فقد انمحقت ذاكرتهم من طول القتال والفرار والترحال، لكننا نكاد نتسمَّع خُطى قوافل عبيد اتفاقية البقط، فنكاد نتقرَّأُ رجع أنينهم، ونحيب شكواهم متدفقاً من ذاك الزمان، فدافعو أتاوة البقط كانوا يتطلبونها صعيداً، وملامح المصفدين وصفاتهم التي رسمتها لنا كتب التاريخ تماثل هذه التي تتفيأ الجبال الآن، إذن يترجح تظنينا القائل إن أولى آهات العذاب سمعت في تلك القرون، فلا غرو إذن أن تنثقب الذاكرة لبعد العهد، وحياة الطرد، وتتضاءل الأعداد لعظم الفقد.
كان هذا حظهم في كل العصور والدول التي تلت حتى تكامل إنزاحهم إلى الجبال، وانقطع آخرون في مرابعهم قاطعين معهم لسانهم وثقافتهم ووجدانهم، وتبدأ دورة جديدة من الخطف والقتل، فقد تعرضوا لموجات من الغزوات في عهود الممالك والسلطنات، فهلك من هلك، وسيق من سيق، واستعصم بقمم الجبال من نجا، فأورثتهم قمم الجبال عزلة وانقطاعاً عن العالم، فتصدع ما بقي من رسيس ذاكرتهم وحضارتهم، فارتدوا كما كان الإنسان الأول، ومن كثرة من سيق منهم صاروا يعاملون كالنقود، فقد كان بعض المريدين يدفعونهم عوضاً عن النقود لشيوخهم في دولة سنار فكوَّن هؤلاء الشيوخ منهم ممالكا للرقيق، حدثنا بذلك ود ضيف الله في طبقاته، وهذا شبيها لما حدث في مصر من قبل، أيام الظاهر بيبرس فقد بلغ سعر الواحد منهم ثلاثة دراهم من كثرتهم، فما أهونهم.

لكن كان عهد الترك من أبشع العصور التي مرت عليهم، ولعل حكمنا هذا بسبب ما رسب بين أيدينا من وثائق تُنبئنا،  وأول العصور التي وجدنا فيها سجلا لثوراتهم، لقد كانوا هم هدف الغزو الأبرز، فإن ما أظهره أسلافهم من قوة وشجاعة وفلاح في الجندية كان شؤماً عليهم، وسبباً في جذب مزيدٍ من الطامعين في نجابتهم في الجندية، فمصر كانت تعرفهم كما قلنا من أيام البقط، وقامت دولتهم الفاطمية اعتمادا عليهم من بعد، وشكلوا قوة ضاربة في عين جالوت المعركة التاريخ، لا ندري أيضاً كم كان الفقد، لكن الوثائق تقول إنه في خلال أربعة لأشهر خلال سنة 1824 أرسل إلى مصر 4 ألف من الرقيق، هذا هين وبسيط مما ذكره (بالم) (Pallme) في فترة لاحقة فقد أخبرنا في وثيقته أنه حتى سنة 1839 في منطقة واحدة كان ما سجلته الوثائق الرسمية مائتي ألف ، هكذا يقول، فتأمل.
لنتملى هنا صورة لإحدى رحلاتهم مساقين نحو مصر حكاها (كرمب) نسترضي بتألمنا من فظاعتها عتابهم على الزمان، ونلبي باستحضار الألم على شكواهم لحفدتهم، روى (كرمب) أنهم كانوا يصفدون إلى بعضهم بسلاسل ينوء بثقلها أولوا القوة منهم، سيراً على الأقدام خلف أسيادهم، وهؤلاء أفضل حالاً، فهناك آخرون يساقون وأعناقهم مشدودة إلى عيدان خشبية تبلغ الواحدة منها عشر أقدام،  بحبال تلتف حول الأعناق فلا تفلت رؤوسهم، أما الأيادي فتوثق حول العود بحلق حديدية، وهم حفاة عراة عطشى إلا من قطرات تُرشُّ على حلوقهم، وهم طوال النهار سيراً، وحينما يخيِّم الظلام تشدد عليهم الحبال ألا يهربوا، ومن يعتلُّ منهم أو توهن قواه يرمى في هجير الصحراء، فلا هو يطيب ليحيا ولا هو يُتمُّ فيموت، حتى يأتيه المصير المحتوم متكاسلاً، هكذا أفرغوا.
لكنهم ثاروا في كسلا سنة 1865 نتيجةً لسوء المعاملة واحتلوها، واستحال هزمهم، ولم تنتزع منهم إلا بخدعة، ثم أبيد الثوار على آخرهم، وقذفت جثامينهم في رمم الكفار، هكذا قال التاريخ، واستمر الحال تنضجه العذابات، ويتشوون في جفانها، حتى أطلت المهدية وفيها شهدوا تحسنا نسبيا طرأ على حياتهم، إذ كانوا مهدها وجندها ولهم فيها راية، وصارت تقبل شهادتهم في المحاكم، لكن لم يتم التحرير الذي وعدوا به، وفيها أيضاً سجلوا ثورتهم الثانية في الأبيض، التي انكشفت عن دولة لهم أقاموها بالدلنح انتظمت ثلاث سنوات قبل زوالها بضربات حمدان أبو عنجة، لقد كان لهم بلاءٌ في المهدية مشهود لم يكافِئْه المقابل.

رغم أنهم قاتلوهم في جبالهم حينما أتوهم أول مرة، وعُدَّت لهم (30) ثورة أو تزيد، إلا أن عهد الإنجليز كان أول عهد تتوقف فيه غزوات الرقِّ عنهم بصورة ناجزة، ويحرر فيه أهلهم الذين سبق أن استرقوا وتوطنوا الشمال، لكن وقعت المماحكة من بعض الوطنيين اللذين قاوموا تحرير رقيقهم، لكن إرادة الأنجليز غلبت، وتمرحلت القوانين والتشريعات الساعية لوأد كل أصناف الرق لتكتمل سنة 1952 أي قبل أوان الحكم الذاتي بعامين فقط، نعم توقفت العبودية المباشرة لكن ظل الاستعلاء والتهميش قائماً لينفتح نضال جديد، لم ينته حتى اليوم، لكنه ما فتئ يخبو ويخبو، أولى تجلياته تبدَّت سنة 1924، فرغم أن علي عبد اللطيف ثار على محرريه لصالح جلاديه، محرريه الذين رفعوه من قاع المجتمع إلى صفوة القوم، لكن ما شفع له هذا فقد نال سخطا واستهزاءا من بعض مواطنيه، وهذا معلوم مشتهر فلا نُزْكي رسيسه، لقد نشط أبناء ثوار 24 في رفع التهميش عنهم وتقلبوا في عدة تنظيمات لعل أشهرها وآخرها الكتلة السوداء سنة 1948، ليسلموا بعدها راية النضال إلى أبناء الجبال، بعد الاستقلال، لنرى ثم ماذا بعد…

د. قاسم نسيم
[email protected]

 

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..