رسالة في مؤسسية الدولة

بفصل في هذه الرسالة الموجزة، مبدأ لا غنى عنه لبناء الدولة المؤسسية، وهو استقلالية بعض الأجهزة الحيوية، لما لها من دور جوهري في تنظيم الشؤون العامة وضبطها، وتعزيز الشفافية وسيادة القانون، وتمكين الكفاءات، بما يرسخ الحوكمة، ويدعم مشروعات التنمية والإصلاح الاقتصادي، والاستقرار والسلام المجتمعي، وتشمل الأجهزة التي نتناولها، القضاء، وبنك السودان، وديوان المراجع العام، وهيئة الإذاعة والتلفزيون، ووكالة الأنباء الحكومية، ونقترح هنا إطاراً نظرياً عاماً، قد يكون بعضه مضمناً في القوانين والانظمة الحالية، فتكون الفائدة في تعزيزه، أو غائباً فيجدر بالمختصين النظر في إنشاء آلياته ولوائحه.
إن التباطؤ في تشكيل مجلس القضاء العالي، الذي اقترحناه سابقاً، والاكتفاء بتعيين رئيسين للقضاء والنيابة بقرار سياسي، لا يتسق مع مؤسسية الدولة وفصل السلطات، فمن الضروري نشوء مجلس القضاء وإحكام أساسه القانوني بحيث لا يجوز لأي سلطة سياسية منتخبة أم غير منتخبة التدخل في عمله أو تعيين أعضائه بعد التشكيل الأول، إلا في حدود ضيقة وحالات استثنائية ينظر في تحديدها المختصون، بحيث لا تؤثر على استقلالية القضاء.
وأوضحنا سابقاً، أن البنك المركزي من أبرز الأجهزة التي تحتاج إلى المراجعة والإصلاح، ولابد من طرح إطار قانوني جديد يجعل محافظ بنك السودان والجهاز كله صاحب قرار مهني مستقل، لا يخضع لإملاءات الجماعة السياسية الحاكمة، أيا كانت، أما القول بأن الزعيم السياسي المنتخب بالإرادة الشعبية يجوز أن تطلق يده ويمنح صلاحيات واسعة في تعيين وإعفاء قيادات الأجهزة العامة، خاصة هذه التي نتناول أمرها هنا، إنما هو مردود، فتجربة السياسيين في حكم السودان لا تعكس قدراً كافياً من الرشد والعقلانية والإتزان، ولا تمنح الثقة في قدرتهم على تبني القرارات والتقديرات المناسبة، لذلك نرى التوسع في مبدأ استقلالية الأجهزة، للحد من عدم الرشد السياسي، وتحصين الدولة ضد الصراعات والممارسات السياسية الصبيانية، والأهم، فتح المجال واسعاً لتمكين القرار المهني التخصصي العلمي.
أما ديوان المراجع العام، فهو جهاز فائق الأهمية، ذلك أنه يتصدى – مع أجهزة أخرى – لنزعة متأصلة في البشرية، هي الفساد والسعي لتحقيق المكاسب الشخصية بطرق غير قانونية، وهو أمر تكاد لا تنجو منه مؤسسة حكومية أو أهلية في كافة أنحاء العالم، ونرى النظر في منح أكبر قدر من الاستقلالية والصلاحيات لهذا الجهاز، بحيث تنشأ هيئة إشرافية من عدة موظفين قدامى أمضوا فيه سنوات طويلة، تتولى اختيار المراجع العام وتقييم أدائه وإعفائه إذا لزم الأمر، ومنح المراجع صلاحية مطالبة النيابة بفتح تحقيق في المخالفات المالية الجسيمة، وكذلك تقديم توصية إلى البرلمان بإعفاء أي موظف عام، وصل الديوان إلى قناعة بأن مخالفاته وممارساته الإدارية تشكل خطراً جسيماً على سلامة الأنظمة المالية والإدارية للدولة.
ولعل في عمل أجهزة الإعلام الرسمي خلال العهد السابق، والأيام التي أعقبت مذبحة الخرطوم، بطريقة كارثية تتجاوز القواعد المهنية والأخلاقية، عبرة للناس في ضرورة فصل أجهزة الإعلام الرسمي عن السلطة السياسية، ونرى إنشاء هيئة إشرافية مستقلة من 3 شخصيات أو 5 تكون قراراتها بالأغلبية البسيطة، تتولي تعيين وإعفاء مدراء التلفزيون والإذاعة ووكالة الأنباء الرسمية، ويوضع لها لائحة ونظام، يقصر صلاحية التعيين في الهيئة الإشرافية عند خلو أحد المقاعد على أعضائها فقط، ويجوز وضع قواعد مناسبة لكيفية إعادة تشكيل الهيئة في الحالات الاستثنائية كالوفاة أو العجز الجماعي للأعضاء نتيجة ظروف غير عادية، ونقترح لعضوية هذه الهيئة الأستاذ فيصل محمد صالح وزير الإعلام الحالي بصفته المهنية لا الوزارية، والدكتور خالد التيجاني النور، والأستاذ محجوب محمد صالح.
غني عن القول أن مبدأ الاستقلالية ومنع تدخلات السلطة السياسية سواء كانت منتخبة أم لا، وإنشاء هيئات إشرافية من شخصيات مؤهلة تحظى بالاحترام والاستقلالية، يمكن التوسع فيه إلى مؤسسات أخرى لا يتسع المجال لذكرها هنا.
إن الهدف الأساسي لهذه الأطروحة، قطع الطريق على تدخلات أي طرف سياسي في عمل هذه الأجهزة الحيوية وتوظيفها لخدمة أجندته أو إخفاء جرائمه وفساده، بغض النظر عن هوية هذا الطرف والشعارات والإدعاءات، هل يزعم لنفسه الحديث باسم السماء، أو الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، أو باسم مهدي منتظر أو دماء شريفة، فالمطلوب تمكين هذه الأجهزة من أداء عملها على أسس علمية ومهنية وعقلانية وسع الطاقة والإمكان، للمساهمة في المشروع الوطني، والمضي خطوات على طريق إنهاء هذه الفوضى والبدائية العجيبة التي نغرق فيها.
مجاهد بشير
[email protected]