مشاهد من الخرطوم المُحرّرة

سألتني المليحة وهي تُقلّب جواز سفري باحتراف وسرعة، من أين أنت قادم؟ قلتُ من الخرطوم، وأضفتُ مُهمهِماً ‘المُحرّرة’. منحتني نصف ابتسامة وجوازي بعد أنّ اختارت صفحة خالية تماماً لتضع علامة الوصول وهي تقول، مرحباً بك في الوطن. الوطن!! يا لهذا الترحاب الحميم الَّذي عصف بِمنابت الانتماء عصفاً، وأثار شجون انشطار الهُويّة، ومضت وميضاً للحظة جدليّة… الوطن الَّذي تعيش فيه والوطن الَّذي يعيش فيك فتنبّهتُ أنّنا في مطار نيويورك فشكرتها. أردفتْ هي بسؤال تقليدي يقبل إجابة واحدة، هل معك ما يجب إبلاغنا به؟ قلت وأنا أُخرج من جيبي ما تبقي من تمرات. هذا، طازجٌ من نخلات بلادي السوامق، فالأيام هي موْسم الحصاد فأكملت نصف ابتسامتها تلك إلي أُخري كاملة البريق وهي تُتمْتم لا عليك.
قادماً كنتُ من الخرطوم المُحرّرة، هذا وبامتياز أوّل ما يخطر ببال زائر الخرطوم، شئ يطلّ من كلّ مسامات هذه المدينة يحكي أنّها قد تحرّرت، وتمّ إنقاذها من (الإنقاذ) وسنينها العجاف وللأبد، فالحمد لله أن قَدْ منّ علينا ورأينا الوطن وهو يبدأ رحلة التعافي والمسير نحو الضوء ويخلع جلباب الظلم والظلمات الّتي استطالت عقوداً. بَلى .. مُحرّرةٌ هي رغم أنّ التحرير لم يكتمل تماماً. تستشعر هذا وأنت هناك، فبقايا النظام الهالك ودولته العميقة تُري آثارُهم وتُحدِّث أدرانُهم عن محاولات بائسة لتعطيل مسيرة التغيير وشد العربة للوراء، ويحهم ألا يتفكّرون؟ البؤساء الَّذِين يتوهمون أنّ الإسلام العظيم في خطر، السُذَّج الَّذِين يحسبون أنّ المفردة ‘مدنية’ مرادفة لفسوق أو انحلال وأنّ ‘العلمانية’ هي ملَّة كُفَّار قريش، وأنّ من يدير شأن الفترة الانتقالية هم بنو القينقاع، تجدهم – وهم شرذمة قليلون – يعلنون عن وجودهم وهم يفتعلون الأزمات ويتصيّدون الأخطاء، يُضخّمون الهِنّات ويُصغّرون الإنجازات، ويمتهن جهادهم (ودجاجهم) الإليكتروني المدحور بث الشائعات. بل الأعجب – وهم من يقول وحتّي الأمس القريب بحرمة الخروج علي الحاكم – تراهم اليوم يفعلون كل تلك الأفاعيل للخروج على حاكمٍ ليس بظالم، فبئس النفاق. لكن بُعداً لهم فالخرطومُ قد تحرّرت.
تكاد تلمس بأطراف أصابعك وأنت في الخرطوم الآمال العراض والّتي تبلغ الجبال طولا، تراها في تحمّل الكبار وابتسامات الصغار وفِي حديث الشباب المملوء حماسة ويقين. الأمل بسودان جديد يمطر عدلاً وأمناً وسلامة، وقمحاً وتمنّي ووسامة، هو القاسم المشترك الأجمل، الكل يُعوّل علي غدٍ أنضر، هذا الأمل يتنفّسه كل الناس تقريباً، كيفما كانت الفوارق بينهم. والوعي الجمعي – رغم بعض توجّس – يُحدّثك عن أنّ شمس الوطن إليّ إشراق لا محالة.
أمّا إن حدّثتك أنا عن الخرطوم يا رفيق المهاجر والشتات، فاعلم أنّ الخرطوم ما عادت تعرفنا ولا عدنا نتكلّم لغتها بعض أحايين، وعليك ببذل بعض جهد لتتعرِف علي الديار بعد توهّم. شاخت المدينة كثيرا واكتظّت إلي درجة مخيفة بالمركبات التي تتشابه حد الغرابة. تناقصت شوارعها وتوارت وأصابها الخريف وَالَّذِي تمدّد لشهرين إضافيين عامنا هذا، بكثير من العنت وما عادت الشمس في كبد السماء بقادرة علي تجفيف كل تلك المياه، لكن بالخرطوم من دفء الحنين ما لا تخطئه القلوب. ويظل مزروعاً في الدواخل، غمام مودّة وأنهار من إلْفة، الأهل يشعّون بكل بهاء الدنيا والرفاق هنالك يجمّلون كل أوقاتك، والأماكن القديمة تحتفظ – لا زالت – بعبق ذكريات أزمنة بعيدة، وتري بعض فراشات اتّخذت من الخرطوم مُستقرّا ومُقاماً فلا تملك إِلَّا أن تتبسّم مودّةً وهياماً.
لا تكتمل الزيارة للخرطوم – ولا ينبغي لها – بلا وقفة إجلال واحترام حيث كانت دولة الاعتصام الأعظم، القيادة، وما أدراك ما القيادة، ذات المكان الَّذي سطعت منه شموس التحرير، وحلّقت في سمائه، وقاعِ نَهرِه، أرواح الشهداء الأماجد، وحيث تشكّلت ملامح مجتمع المستقبل المرجو وبدأت تركيبة الحياة القادمة في الظهور، كان هنا تَرَس، وهناك كان المسرح، وتعبر بجمهورية أعلي النفق فتقرئهم السلام، وتلاحظ أنّ الجداريات الباذخة اختفت (بفعل فاعل) إِلَّا من قليل، لكنه يكفي لإرسال الرعشة فيك، وتري بأمِّ عينيك المبني الَّذي أتي الأوغاد منه، خلسةً ذات ليلة رمضانية قُبيل عيد. هنا تحديداً سالت دماء عزيزة وغالية فإن جئت يا صاحب فلا ينبغي لك إِلَّا أن تُحيِّي باحترام كل من كان هنا جسداً أو روحاً وترفع كفّيك للسماء تستمطر الرحمات لكل من ارتقي وأنّ لعنة الله علي الفاعلين. كان بداية عهدهم قتل الثوّار ليلة العيد وكان نهاية عهدهم الغدر بالثوّار قُبيلَ العيد… ثلاثون كانوا فيها أعداء كلّ فرحٍ وعيد…
صادفتُ معرض الخرطوم للكتاب، كان من المُنعِش جداً تأمّل الحشود المتلهفة للمعرفة وزهوتُ بأن أكونَ بعضاً من زحام يبغي كتاباً. الخرطوم لا زالت تقرأ، رغماً عن رهق الحياة وإرهاقها و(أشاغيل) القوت والعلاج، الخرطوم تقرأ ولا تبالي بمن يكتب ومن يطبع بل تُمارس عشقاً قديماً بنهم، والسُمر الرائعون أمامي يتخاطفون الكتب من كل زوايا المكان الفسيح علي اختلاف المعروض وهذا دليل عافية فما هانت أُمَّةٌ تقرأ.
هنا تزداد يقيناً أنّ الخرطوم قد أضحت مُحرّرة حقّاً فلا قيود علي كتاب، ولا أمن يصادر مكتوباً أو يحجر علي فكرة، فنوافذ المعرفة قد فُتِحَت كما ينبغي وسؤال من يقرأ ماذا، فلا مكان له في المناخات الّتي تتنفّس الحُرّية. ليت معارض الكتب والمكتبات المُتنقّلة تجد اهتماماً من أصحاب الشأن، يستهدفون بها الصِغار والكِبار فالقراءة، كما هو معلوم بالضرورة من أهم أدوات الوعي، والوعي من مفاتيح التقدّم.
أعرضنا في هذه المشاهد عن السالب في الشارع الخرطومي عامدين، فكل قبيحِ فيها موروث، فما كانت هناك سلطة راشدة تُقوّم معوجّاً أو تستبين نصحاً أو تبذل جهداً، تكالبوا علي ملذاتهم واستبقوا الشهوات وما رعوا أماناتِهم حق رعايتها، ولا أغلي من الخرطوم أمانة. لكن وعداً سمعنا من أجيال قادمة أن سيبنون مجدها القديم ويزخرفون مهرجانات ربيعها القادم.
محبتنا لخرطومنا المُحرّرة والسلام والاحترام للشعب العظيم الَّذي أبدع ثورة عظيمة، تتجوّل في دروبها وتلتقي بعض صنّاعها فيصيبك ما يصيبك من الفخر والاعتزاز وتسعد أنّ لك جذوراً راسخات في هذه الأرض الطيِّبة وتظل تبحث عن مفردات تصف هذا، فتتمنّع الحروف، حتّي الحروف تحرّرت فما صارت تنقادُ لنا طوعا.
خالد عبدالحميد عثمان محجوب
[email protected]
من غير ميعاد كم هو جميل ان نراك بخير بعد كل هذه السنوات الطويلة،