مقالات وآراء سياسية

عفو الخاطر: نهج الاستبداد.. العسكرتاريا من ليما إلى الخرطوم والجزائر

عمر جعفر السوري

تتهاوى الأشياء وتنهار، والمركز غير قادر على الصمود
هـي مجـرد فوضـى تعــم العــالـم*
“ويليم بتلر يتس”

حينما حطت بنا الطائرة على مدرج مطار ليما، عاصمة البيرو، ذات صباح من شهر يونيو/حزيران  1986، كانت الغيوم تحجب قرص الشمس وتدثر قبة السماء، والسحب الداكنة تتراكم زاحفة من ناحية المحيط الهادي نحو المدينة الغافية المتعَبة والمتعِبة. راعني منظر جنود مدججين بالسلاح وأصابعهم على الزناد، وتحديقهم في وجوه القادمين، راصدين حركتهم وذلك لما هبطنا من الطائرة واصطففنا عند منافذ الجوازات. بدى لنا أن جميع موظفي وعمال المطار على وشك الانهيار، وأن الدموع الحبيسة تكاد أن تفجرً المآقي وتلهب الخدود، والكآبة تلف سحن الجميع. عجبنا لهذا الترحاب الغريب في عاصمة ظنناها تفيض بالفرح لقدوم هذا العدد الكبير من السياسيين وقادة الدول والزعماء والصحافيين من كل بقاع الأرض لحضور المؤتمر السابع عشر للاشتراكية الدولية الذي تعقده المنظمة للمرة الأولى في أميركا اللاتينية، وذلك بدعوة من التحالف الثوري الشعبي الأميركي الذي استطاع أن يوصل مرشحه لانتخابات رئاسة الجمهورية في العام 1985الى سدة الرئاسة.  كان الرئيس ألان غارسيا بيريز في الخامسة والثلاثين من عمره عندما فاز بالرئاسة، كان وسيماً وشخصية مؤثرة ذات حضور، وخطيباً مفوهاً، أطلقت عليه غالبية الناس بعد فوزه لقب “الجواد الجامح Caballo loco” فصار يعرف به عند العامة والخاصة إلا أعضاء حزبه لإقدامه على كل شيء الى حد التهور. رأت الاشتراكية الدولية أن تدعم أحد أحزابها بعد وصوله الى السلطة وأن تقدم المساندة السياسية لرئيس شاب يأتي الى المنصب عبر صناديق الانتخاب بعد أن رزحت البيرو تحت حكم العسكرتاريا ومليشيات اليمين والانتخابات المزورة ردحاً من الزمن، فقررت ان تكون ليما موعدا للقاء. لكن الجيش أفسد عليهم هذا العرس قبل بداية الحفل فلطخ اسم البلاد وأوهن عزيمة الرئيس الجديد والحزب العريق.

عندما خرجنا من المطار واستقللنا سيارة اجرة إلى الفندق، قال لي دريد ياغي، نائب رئيس الحزب الاشتراكي الديموقراطي اللبناني (حزب آل جنبلاط) الذي جاء الى المؤتمر بديلاً عن رئيسه، وليد جنبلاط: أنني أشم رائحة الموت في الارجاء، هي رائحة مألوفة لدينا في لبنان، فالحرب لم تزل تطحن العظام وتسفك الدماء وتحيل العمران الى حطام، وهذا التأهب ليس غريباً على اللبناني. ازداد تراكم السحب وانحسر الضوء قليلاً عن شوارع المدينة كأن الليل يستعيد حضوره ويستأنف دبيب ظلامه بعد أن توارى عندما انبلج الفجر وتنفس الصباح. لم يكن الحال في الفندق أفضل مما شهدنا في المطار. كان الجنود، وهم في كامل عدتهم وعتادهم، يحيطون بالفندق والشوارع وأسواق التحف والتذكارات القريبة منه، وينتشرون في أرجائه، يذرعون البهو جيئة ذهابا، رغم أن جميع من في الفندق الفاخر خضع للتفتيش الدقيق والتحري الصارم.

علمنا فيما بعد من وفود سبقتنا إلى الوصول الى المدينة، أن ضباطاً وجنوداً من البحرية البيروفية ارتكبوا مجزرة بشعة بدم بارد، كما وصفها بيان أصدرته المنظمة أثناء أعمال المؤتمر، راح ضحيتها ما يزيد عن ثلاثمائة سجيناً، وأن المذبحة وقعت في سجون العاصمة التي تتمتع بدرجة عالية من الأمن وبحراسة مشددة حيث يقبع السجناء في اقبية تحت الأرض وليس أمامهم منفذ للخروج أو الهروب. كان هؤلاء السجناء من أعضاء منظمة “الدرب المضيء” التي خاضت حرب عصابات في الريف ونفذت عمليات خاطفة في المدن أقضّت بها مضاجع حكومات البيرو منذ العام 1980 كما أنزلت خسائر كبيرة بقوات الشرطة والجيش، لا سيما في المناطق الجبلية من البلاد التي ازدهرت فيها حضارة الإنكا العريقة في غابر أيام عهود سحيقة خلت، الا أن آثارها وبقاياها لم تزل ترنو الى الحاضر من بعيد تستعيد مجد سنين زاهرة وقرون باهرة. كان بعض القتلى قد قضى سنوات عددا في تلك السجون سيئة السمعة، بل قل في مقابر الاحياء.

ضباط البحرية البيروفية وجنودها هم صفوة الصفوة في القوات المسلحة هناك. لا ينتمي اليها ولا ينخرط في صفوفها الا من تختاره الطبقة الحاكمة ويدفع به أهل السلطة وصانعوها من القابضين على مفاصل الاقتصاد والسياسة، بل نبض الحياة كلها. إلى الأمريكان، يمسك بالمال والاعمال أثرياء اليهود والجالية الفلسطينية الصغيرة والصينيون واليابانيون والمتحدرون من اسبانيا وبعض دول اروبا. أما السكان الاصليون فهم المهمشون المنسيون الذين لا يتذوقون طعم اللحوم والدواجن وكل ما كان له روح طيلة حياتهم القصيرة التي قلماً ما تتجاوز منتصف الاربعينيات.

خيم الرعب على سكان المدينة، وأرخى الفزع سدوله على أرجائها كافة، وناء الهلع بكلكله على احيائها الراقية الآمنة الهادئة كحي “ميرا فلوريس”، حيث الطبقة المخملية والسفارات وأعضاء السلك الدبلوماسي. قصدتُ الحي بعد وصولي بقليل بحثاً عن خافيير بيريز دي كوييار، الأمين العام للأمم المتحدة، الذي كان في زيارة الى مسقط رأسه، فقيل لي انه عاد ادراجه الى نيويورك غداة المذبحة. لم يحتمل الرجل ذو الوجه الباكي والملامح الحزينة الهول التي سرت أنباؤه كالنار في الهشيم. هو غادر المدينة، لكن ضيوفاً كباراً من الزعماء الغوا مشاركتهم في المؤتمر بعدما استعدوا للمجيء الى العاصمة المستلقية على شاطئ المحيط الهادئ، وآثروا الابتعاد عن مدينة الموت والدم والفاجعة، منهم بتينو كراكسي، رئيس وزراء إيطاليا، الذي أرسل على رأس وفد الحزب الاشتراكي الإيطالي صديقته المقربة وأمينة الشؤون الخارجية، مرغريتا بونيفار. عرفتُ بونيفار قبل ذلك بعامين عند انعقاد مؤتمر الحزب الاشتراكي الإيطالي في مدينة روميو وجولييت، فيرونا في العام 1948، ثم التقيتها بعد ذلك في بداية التسعينيات في اسمرا، عشية استقلال ارتريا، وكانت وزيرة يومئذٍ.  كذلك عدل عن المشاركة مستشار النمسا الجديد آنذاك، فرانتس فرانيتسكي؛ وبرونو كرايتسكي، الزعيم التاريخي لحزب النمسا الاجتماعي الديموقراطي (الحزب الاشتراكي)، وغيرهم من قادة أحزاب الاشتراكية الدولية البارزين، حاكمين وغير حاكمين. الا أن المؤتمر لم يخلُ من بعض الشخصيات البارزة التي كانت نجوماً لامعة على مسارح السياسة والتأثير في بلادها ومنطقتها وقارتها وفي العالم كافة. أذ وصل قبل حدوث المذبحة كل من رئيس الاشتراكية الدولية، فيلي برانت، مستشار المانيا الأسبق؛ وليونيل جوسبان، زعيم الحزب الاشتراكي الفرنسي، وميشيل روكار، فيلسوف الحزب والرئيس الذي لم يتح لفرنسا أن تراه في قصر الاليزيه، وخسرته حتى وصل حالها الى ما نراه اليوم في شوارع باريس؛ وحكيم جمايكا ورئيس وزرائها الأسبق، شريك برانت في وضع خطة النهوض الاقتصادي بالعالم المُخلّف، مايكل مانلي؛ ومن فنزويلا الرئيس كارلوس اندريس بيريز. لكن أفريقيا كانت ممثلة برجال ونساء الصف الثاني والثالث، حتى الحزب الاشتراكي السنغالي، وهو عضو كامل العضوية في المنظمة غابت قيادته عن ليما ومُثل بشخصيات رديفة. أما العرب فقد جاء منهم ضيوف على المؤتمر إذ لا يتمتع بعضوية المنظمة الكاملة سوى الحزب التقدمي الاشتراكي اللبناني (جنبلاط)، أما بقية الأحزاب والمنظمات العربية فقد كانت أما أحزاباً مشاركة أو بقيت ضيفاً دائماً على مؤتمرات ونشاطات المنظمة. أتى الى ليما الصادق فياله أمين العلاقات الخارجية في الحزب الاشتراكي الدستوري التونسي (حزب بورقيبة الحاكم) ثم أصبح بعد ذلك رئيساً للحزب قبيل احتضار الدستوري وغيابه عن ساحة تونس السياسية الفاعلة؛ ومن المغرب عبد الرحمن اليوسفي، زعيم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والصادق زواتن من الجزائر؛ الا ان المفاجأة التي انبسطت لها اسارير الجزائريين، وأغضبت المغاربة، كانت كجمولة منت أبي، عضو المكتب السياسي لجبهة البوليساريو التي أتت الى المؤتمر صحبة أحمد بخاري، أحد مثقفي الصحراء الغربية البارزين وممثلها في أماكن كثيرة قبل أن توافيه المنية في نيويورك حيث كان مندوباً للبوليساريو في الأمم المتحدة. أضحت كجمولة الشغل الشاغل لمحطات التلفزة البيروفية وأطلت من الشاشات على الجمهور بثوبها الانيق المماثل لثوب المرأة السودانية وجمالها الأخاذ واجادتها للغة الاسبانية وطلاقتها وحسن منطقها في دفاعها عن قضيتها؛ كأنما الاعلام البيروفي أراد صرف الأنظار عن جريمة جنود البحرية في سجون ليما وعن المؤتمر بتكثيف ظهور هذه الحسناء على شاشاته، أما ما يتبقى من وقت فتتقاسمه مباريات كأس العالم لكرة القدم التي كانت تجري في المكسيك يومذاك وقد بلغت أوجهها. جابت كجمولة العالم رافعة راية الصحراء الغربية ثم حطت رحالها في نهاية المطاف تحت قبة البرلمان المغربي في الرباط!

شكل فوز “الجواد الجامح” بالرئاسة وحزبه الاشتراكي في البيرو تحدياً كبيراً للعسكرتاريا وسدنتها، فالسدنة لا يريدون تكرار التجربة، خصوصاً بعد أن حكم الاشتراكي كارلوس اندريس بيريز فنزويلا لخمسة أعوام قبل ذلك. أرادوا لرسالتهم أن تصل الى الجميع عن طريق أحزاب الاشتراكية الدولية التي تقاطرت وفودها الى عاصمة البلاد. فأحجم عن الحضور من أحجم، وقيدت حركة من حضر بين قاعة المؤتمرات والفنادق التي يقيمون فيها، وانحصرت أصداء المؤتمر بين جنبات قاعة المؤتمرات المطوقة بالجنود ورجال ونساء الأجهزة السرية، كما رفض أعضاء الوفود تلبية دعوة الرئيس ألان غارسيا لحفل الاستقبال ومأدبة العشاء في ختام يوم الافتتاح ترحيباً بالوفود وتكريماً لهم، وذلك استنكاراً واحتجاجاً على اسالة دماء غزيرة في سجون شديدة الحراسة. ألان غارسيا انتخب مرة أخرى رئيساً، وفي المرة الثالثة التي ترشح فيها للمنصب طاردته اتهامات الفساد التي حبك خيوطها اعداؤه بحنكة وروية، فانتحر حينما جاء العسس الى منزله ليعتقلوه ويودعوه غياهب السجون في أبريل/نيسان 2019. لم تأخذ العدالة مجراها بمحاكمة من ارتكب المذبحة، رغم وعود الرئيس ورجاله وتعهدهم بفتح أبواب البلاد للهيئات الدولية ومنظمات حقوق الانسان وغيرها للتحقيق في الجريمة وإنزال العقاب الرادع بمن ارتكبها.

وفي السودان جرى ما يشبه جريمة ليما لما هجم العسكر وميليشياتهم الضارية بتخطيط محكم وتدبير غادر بليل على المتظاهرين السلميين المتجمعين أمام القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية التي احتموا بها، ظناً منهم أنهم بمأمن وفي حرز حريز. لم يرف للمرتكبين جفن وهم يعملون قتلاً وسحلاً واغتصاباً. ما اكتفوا بذلك بل القوا جثث الضحايا في مياه النيل امعاناً في التنكيل واخفوا غيرها. ثم جاءوا شيئاً ادّا حينما قالوا “وحدس ما حدس” كناية عن “وحدث ما حدث”، كأنما الذي جرى هو عراك في ملعب كرة قدم، أو مشادة نشبت في حفلة عرس. دأب أهل السلطة على الاستخفاف بالناس وبمقدرات البلاد من بشر وحجر. ففي عهد جعفر نميري، خرج وزير الري آنذاك، مرتضى أحمد أبراهيم، بتفسير غريب أدلى به، بدون وجل، في مؤتمر صحافي ثم أكده بعبارة نشرها في جريدة الأيام تبريراً لكارثة انهيار ضخم في مشروع زراعي، بان الانهيار الذي حدث في قناة مشروع الرهد لا غضاضة فيه، قائلاً: “فلتنهر القناة الاولى والقناة الثانية وتبقى الحقيقة لشعبنا”. اية حقيقة تلك التي عناها الوزير الراحل؟ العزة بالإثم! كان المهندس مرتضى أحمد إبراهيم وزيراً في عهد العسكرتاريا الذين لا يقبلون لوماً أو محاسبة.

يتهرب العسكر من تقديم الجناة الى القضاء بشتى السبل والوسائل فالجريمة تطالهم، ولذلك يقومون بالهاء الناس بمحاكمة رئيس قطيع الضباع بجرائم حيازة النقد الأجنبي، وجُنح الحصول على العملة السهلة التداول، واكتناز العملة المحلية، متناسين مئات الالاف الذين قتلوا بوحشية وبدم بارد في جميع انحاء البلاد من شماله الى جنوبه ومن شرقه الى غربه وما بينها، والذين عُذبوا في بيوت الاشباح، والذين أُخفوا قسراً ولم يتبين مصيرهم بعد. شهور طويلة انقضت ولم يأخذ الضحايا وذووهم حقهم، بل اغتصب هذا الحق اغتصابا مماطلة ومراوغة، فإرجاء تحقيق العدالة حرمان من العدالة (justice delayed is justice denied). ومازال العسكر يزهون برتبهم السامية المنتشرة على أكتاف من يستحق ومن لا يستحق، حتى بدى غالب هؤلاء الضباط مثل “مارشال المديرية”.

كان “الجنرال” جان بيدل بوكاسا، رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى في سبعينيات القرن الماضي، يزور السودان كثيراً، وكان يعشق مدينة ود مدني. وكان يهبط من الطائرة مرتدياً سترة تتدلى من كل أجزائها الامامية الاوسمة والانواط والنياشين بكل احجامها واشكالها. القليل منها ناله عن جدارة فقد حارب جندياً، وليس ضابطاً، في الفرقة الأجنبية الفرنسية، وخاض معها معركة ديان بيان فو، التي اندحر فيها الجيش الفرنسي على أيدي المقاتلين الفيتناميين بقيادة الجنرال فون نجوين جياب؛ ولكن غالبيتها زرعه على صدره بنفسه وبيديه. في احدى زياراته وبعد استقبال جعفر نميري له في المطار، ذهبتُ بمعية الزميل يحي العوض الى مكتب وكالة “أ. د. ن” الألمانية الشرقية القريب من المطار. كان مدير المكتب الألماني وزوجه في الانتظار وأمامهما صورة للجنرال بوكاسا وهو في كامل لباسه العسكري والنياشين تغطي كل بوصة من سترته، فكتب الصحافي الألماني باللغة الإنجليزية: “أقلب الصفحة رجاءً” في إشارة الى أن الاوسمة الجديدة ستعلق على ظهر سترته التي امتلأت تماماً. لكن بعد يوم من وصوله، أعلن بوكاسا من مصيف أركويت وبحضور العقيد جعفر نميري والسفير الألماني، اعترافه بجمهورية المانيا الديموقراطية. أخذ الصحافي الألماني يبحث عن الورقة التي كتب تعليقه عليها بهستيريا وجنون ليحرقها، فلم يجدها! فازداد خوفه وجنونه، خصوصاً ان هناك شهوداً على فعلته. اليوم في السودان، الذي كان يتمتع بقوات مسلحة رفيعة المستوى لها نظام صارم وقوانين لا لبس فيها وتقاليد راسخة في الترقي الى الرتب الاعلى، تجردت قواته النظامية من معظم ذلك فتقلد مارشالات البادية الرتب العالية دون استحقاق أو مسوغ؛ ثملوا بها فعاثوا في الأرض فساداً. أما أحبار الطوائف وإكليروس الأحزاب والمنظمات السياسة فما انفكوا في غيهم سادرين، لم يتعلموا شيئا ولم ينسوا شيئا، كالبوربون تماماً. فهم لا يرون صوامعهم ومعابدهم تتهاوى على رؤوسهم، وأبرشياتهم تتداعى أمام عيونهم، وأديرتهم قد خلت من نساكها. ماذا تضمر العسكرتاريا – وهي التي أدمنت “السيادة” لنصف قرن ونيف من عمر السودان المستقل – خلال المرحلة الانتقالية الحالية أو فور انتهائها؟ حكم الجنرالات المباشر أم من وراء ستار؟ ومن هم العرابون؟ وهل ينتبه أهل السودان والذين صنعوا ثورة التاسع عشر من ديسمبر/كانون الأول 2018 الى ما يحيكون من خلف الأسوار العالية، فيمسكون بالمبادرة قبل أن تغشاهم المؤامرة؟

حَكَمَ الجنرالات الجزائر منذ الاستقلال، تارة حُكماً مباشراً حينما استولوا على السلطة أكثر من مرة، وتارة من خلف الكواليس. بل كانت الجزائر مهد انقلاب فاشل على الجمهورية الفرنسية في نهاية شهر أبريل/نيسان 1961 بعد أن صوّت الفرنسيون في بداية العام لصالح منح الجزائر حق تقرير المصير. فقد تآمر جنرالات متقاعدون، أشهرهم الجنرال راؤول سالان، للإطاحة بالرئيس شارل دوجول الذي وصف ما جرى بأنه “انقلاب الجنرالات الأربعة المتقاعدين un quarteron de généraux en retraite”، ومن ثم نسف المفاوضات السرية التي بدأت مع جبهة التحرير الوطني الجزائرية، ولإبقاء الجزائر فرنسية الى الابد، أذ لم تكن لدى الجيش الفرنسي رغبة في الانسحاب من الجزائر وتركها لشعبها الثائر. انتهت “معركة الترانزستور” بين دوجول والمتمردين في خمسة أيام بانتصار قائد المقاومة الفرنسية إبان الاحتلال النازي، وبغلبة النظام الديموقراطي. أطلقت الصحافة الفرنسية هذا الوصف يومئذٍ على أحداث شهر أبريل/نيسان التي وقعت في الجزائر كناية عما لعبه المذياع الصغير حديث الاختراع في إيصال صوت رئيس الجمهورية الى جميع وحدات الجيش العاملة في الجزائر حيث دعاهم الى مقاومة الانقلاب. كان هذا المذياع هو وسيلة “التواصل الاجتماعي” في تلك الأيام. انهار الانقلاب سريعاً بفضل التفاف الأحزاب والنقابات الفرنسية حول رئيس الجمهورية الخامسة التي سمعت صوته عبر الاثير، صوناً للديموقراطية والحريات، وحقنا للدماء في الجزائر وفرنسا. لكن التاريخ الذي لم يسجل وأد الديموقراطية في اروبا، لأول مرة، على أيدي جنرالات فرنسيين متقاعدين، أبى الا أن يفتح صفحة حالكة عن بطش العسكرتاريا بعد انقلابها على إرادة الشعب عندما استولى الجنرالات الاغريق على السلطة وفرضوا هيمنتهم واستبدادهم في مهد الديموقراطية، اليونان.

بسط جيش التحرير الوطني الجزائري نفوذه قبل استقلال الجزائر، إذ كان الآمر الناهي من وراء الحدود التي تمركزت بعض وحداته الضاربة في مدينة وجدة المغربية. قاد المجموعة العقيد هواري بومدين الذي كان وراء جميع الانقلابات العسكرية حتى وفاته، ومنها استبدال رئيس الحكومة المؤقتة، بن يوسف بن خده، بأحمد بن بيلا، اذ حاول الامساك بالحكم من خلاله، ولكن من وراء الستار، ولما لم يرض بوزارة الدفاع فحسب، قاد الانقلاب على الرئيس بن بيلا وحكم البلاد بالحديد والنار حيث شهدت فيه المعتقلات تعذيباً لم تشهده أيام الاستعمار الفرنسي، فأفرغ الثورة من مضامينها الاجتماعية والسياسة. عُذب المناضلون الوطنيون بقسوة لا نظير لها، روى بعضها الشاعر الرقيق، البشير حاج علي في كتابه “العسف”، وفي مقدمتي الكتاب اللتين كتبهما مثقفان جزائريان رائعان هما الحقوقي محمد حربي، والوزير في الحكومة المؤقتة، حسين زهوان. شكلت شهادة الثلاثة في ذلك الكتاب صدمة لجميع المعجبين بكفاح الشعب الجزائري، وبدأ البعض في طرح الأسئلة الصعبة ومنها: من قتل غالبية الشهداء، هل قضى غالب المليون شهيد على أيدي الثوار أم جيش الاحتلال الفرنسي، وما حجم التصفية الجسدية التي طالت المناضلين. قُتل بعض المجاهدين لأنهم أشعلوا لفافات تبغ في المساء!  وتفشى الفقر بعد أن سرقت البطانة ثروات البلاد الهائلة، حيث أصبحت شركة النفط الوطنية “سوناطراك”، تحت إدارة بلعيد عبد السلام، الذي ترقى ليصبح وزيراً للصناعة والطاقة، ليتحكم في موارد النفط والصناعة كافة ثم رئيسا للوزارة، مرتعاً للحاشية؛ يُصّدر النفط ولا تُورد عائداته الى خزائن البلاد حتى تعود بالنفع على العباد. هو ذات النهج الذي جرى في السودان لثلاثين عاماً عجافاً “الخالق الناطق”.

توالت الانقلابات في الجزائر منها انقلاب العقيد الشاذلي بن جديد، واليمين زروال. وكل ذلك جرى باسم حزب جبهة التحرير الوطني التي كانت شاهد زور لسيطرة العسكرتاريا على البلاد؛ ثم جاء عبد العزيز بوتفليقة، أحد قادة الجناح السياسي لمجموعة وجدة التي تزعمها العقيد هواري بومدين، مهندس الانقلابات الماكر، العابس دائماً، والمستبد الباطش. ردد الجزائريون دوماً وفي كل مرحلة من المراحل “سبع سنين بركات” أي “سبع سنين كفاية” إشارة الى حرب التحرير التي خاضوها ضد المستعمر الفرنسي والويلات التي حلت بالبلاد حينئذٍ. كانوا يتوقون الى نهاية للمعاناة، لكن للعسكرتاريا نهجها الذي لا تحيد عنه حينما تنشب أظفارها في السلطة. هم كالضباع لا أمان لها البتة، فحينما تأويها من زمهرير الشتاء أو قيظ الصيف تقفز عليك ممزقة جسدك، تمتص دماءك وتحطم عظامك. وذلك ما يجري اليوم في مدن الجزائر بالرغم مما أسفرت عنه انتخابات الرئاسة. العسكرتاريا تحكم من وراء الكواليس، إن شئتم وإن أبيتم مباشرة تحت حكم البسطار. أيحدث هذا في السودان والى متى؟

 

عمر جعفر السوري

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..