مقالات وآراء

الحذاء

لا أحد من جيلنا لا يعرف (شركة باتا _ تفهم الأحذية ). وجيلنا هؤلاء الذين كانوا في مطلع الستينيات أطفالا.. عندما كان موظفي الحكومة والمصنفين طبقة وسطي والبرجوازيون الصغار، يدلفون (لشركة باتا ) بكل ثقة لشراء أحذية الأسرة في مناسبات الأعياد وغيرها .. والشركة احتلت مواقع ممتازة لأفرعها في كل أسواق مدن السودان الكبري والصغري .
وأتي حين من الدهر، تراجعت منتجات باتا .. رويدا رويدا وانفض المشترين من حولها وحتي اختفت من السوق تدريجيا تحت اسم (ساتا) ولم يعد لها أثر حتي في لافتات دعايتها وفي يافطات معارضها في الأسواق. وكان ذلك مؤشرا ودليلا علي انقراض زبائنها أنفسهم إذ لم تعد هناك طبقة لكبار وصغار الموظفين ولم يعد هناك برجوازيون صغار، أكلت آلة الرأسمالية الطفيلية الكل، وحولت الجميع ما عداهم (أي انقلابيي الجبهة الإسلامية) إلي فقراء ريف ومدن، بتدميرها لكل القطاعات الإنتاجية والخدمية، خدمة لجشعها ونهمها في مراكمة ربح سريع كبير لأقليتهم الحاكمة، الحاكمة بقوة السلاح والدم والفتك والدين المزور، ولم يكن لدي أي ربط بين اختفاء أحذية شركة باتا وبين سلطة عسكرية غاشمه إلا نهار يوم في ١٩يوليو من عام ١٩٩١م وكنت ضمن مجموعات من شباب السودان وقياداته السياسية والنقابية وهم يساقون إلي أقبية أجهزة الأمن و بيوت الأشباح أفرادا وجماعات، ليلاقوا أصنافا من التعذيب والتنكيل لم يشهد لها تاريخ السودان الحديث مثيلا حتي في أزمان الاستعمار الأجنبي للسودان .
بعد رصد ومتابعة وتجسس خسيس علينا ونحن مجموعة خمس أفراد من الفنانين التشكيليين كنا نسكن معا، ونعمل في أمكنة متفرقة،
عبد الواحد وراق خضر
محمود جاه الله أحمد
علي الأمين محمد
صلاح سليمان بخيت
المرضي عبد الله معلم
تمكن المدعو (صلاح الدين محمد صاغة) الذي كان يترأس اتحاد طلاب جامعة السودان وسقط عن سدة الرئاسة فيه بعد انتخابات تحالف سياسي عريض للقوي السياسية ضد الأخوان المتأسلمين، في بداية عهد الديمقراطية عام ١٩٨٦م وعمل كمحاسب في شركة التنمية الإسلامية بعد تخرجه، ثم هو مدير جهاز الأمن لولاية الخرطوم عشية الثورة الباسلة في ديسمبر ٢٠١٩م.. تمكن من أن يعتقلنا في عصر ذلك اليوم بعد الانقلاب العسكري للجبهة الإسلامية، ومستعينا بقوة مسلحة وأخذنا علي ظهر عربة بوكس مكشوفه إلي مكاتب جهاز الأمن بالخرطوم شرق، حيث تعرضنا لأولي أساليب التعذيب بالشتم بأفظع الألفاظ وثم الضرب (بالشلوت) في الظهر ونحن جلوس (من قبل الطيب الجزار) ورفاقه الجبناء، ومكثنا ليوم في غرفة هي مخزن للأسمنت وبوجبة واحدة، ورحلنا إلي أعلي عمارة جهاز الأمن بعد تحقيق شكلي سريع عن الاسم ومكان العمل ومقر الأهل والأسرة والقبيلة والاتهام الموجه لنا شيوعيين نعمل ضد حكومة الانقلاب، وفي سطح العمارة تعرضنا للضرب مجددا والإجبار علي أداء حركات تمارين رياضية قاسية، علي مدي يوم وليلة مع سيل الشتائم و التهديد بالقتل (لأنكم كافرين) ونقرأ كتب ماركوس!! ولينين !! (يا لجهل القتلة يقصدون ماركس)، ثم من بعد تم توزيعنا علي أكثر من سبع زنازين مكتظة بالمعتقليين من قبلنا، وجدنا عدد من الأصدقاء من بينهم كل فرقة عقد الجلاد الغنائية المغروفة، لم يشكل ذلك في نظري عداء الأخوان المسلمين العميق للفن بكل أشكاله وضروبه، ولكن عداء للإنسانية ذاتها والعيش الحر الكريم، كان بين المعتقلين الأطباء والمهندسون والأساتذة الجامعيون ورجال الأعمال والعمال والمزارعون والنقابيون والشباب المتوثب المسلح بالفكر الحر وإرادة العمل والمحامون وكل إثنيات السودان من جبال النوبة والجنوب والشرق والغرب و الشمال والوسط، إن معيار الاعتقال موجه ضد الجميع إلا من هم غير جماعتهم الإسلامية (الأخوان المسلمين) هم السلطة والدين والسلاح والدم والمال (والمآل ولو بعد حين!!! ) بعد أن جاد لنا الشرفاء من المعتقلين بشيء مما لا يمكن وصفه إسعافات أوليه، ولكن تعبير إنساني عالي وتحت ظروف القهر الجماعي، ضمدوا بعض جروحنا بتنظيفها، وتجفيفها، وقبل أن يستقر لنا حال أخذنا في جنح الظلام بحافلة مسدولة الستائر الزرقاء، إلي مكان آخر، وما ان نزل آخر معتقل من الحافلة في حوش منزل حكومي ضيق، حتي بدأت حلقة مجدده من الضرب المبرح حتي ساعات الفجر الأولى، وأمرنا بالصلاة والدماء تسيل من كل مضروب، وسيل الشتائم لا يتوقف، كل من هب ودب، من بين عصابتهم، كشفت لي هذه الاعتداءات المتواصلة والضرب، الجماعي للكل، مقدار خوفهم وذعرهم، من شيئ فظيع آخر يرتكبونه في حق الوطن والناس أجمعين، من أن المأسورين والمعتقلين ليس مجرد خصومهم في السياسية المعروفة مع التنظيم الأخوان المسلمين، انكشف لي أيامها أنا في مواجهة عصابة إجرامية لا عقيدة لها، و لا دين لها ولا إنسانية ولا عهد ولا ميثاق ولا يحكمها قانون وتعرف أنها لا يمكن ان تحقق أهدافها إلا بالسحل والقتل والاعتقال وسفك الدماء دون واعز ولا ضمير، كل ذلك جعلنا متحدين، نقتسم الهواء الداخل للغرفة بفرجة اسفل الباب ونحن أكثر من عشرين فرد معتقل في غرفة لا تتجاوز مساحتها التسع أمتار مربعه وأولوية في الهواء لكبار السن والمرضى، ثم أخرجوا الجميع إلي مكان ما، واستبقوني ليوم وحدي في ذات الغرفة، وفي الليل، قادوني لغرفة جوار الباب الخارجي، أظنها الاستقبال، وأجري معي ما عرف لاحقا بالضابط أمن محمد الأمين تحقيقا وتحريا، تحريا تركز علي أننا أسرة كلها شيوعيين، ويسرد لي أسماء أشقائي، ليؤكد لي انهم يعرفوننا فردا فرد، وختم بالسؤال عن أين أخوك أبو بكر، أخبرته انه معتقل لدي جهاز الأمن، فكان رده نافيا ذلك، ليقول لي نحنا زمان صفيناهو الناس ديل ما جابو ليكم الجثمان..،، !!!!! وعلي اثر ذلك طلب ان أقفل في الجراج، وتم اقتيادي إلي غرفة هي فعلا جراج المنزل بها ربط وحزم من البطاطين فوق بعضها تحتل ثلثي المكان، ومظلمة تماما، أغلقوا علي الباب الصغير، لأفاجأ بان هناك شخص جالس قبالتي في المكان الضيق، تعرفنا علي بعضنا، إنه الضابط مهندس طيار /بابكر محمد إبراهيم وعرفت انه هنا له أكثر من تسع أشهر، وسرد لي كيف يقضي وقته في إطعام النمل والحمام من خلال فرجة الباب الجانبية ببقية فتات الخبز ويفكر بطريقة تجعله يقظا باستعادة موضوعات في الهندسة ومجال عمله، واستعدنا سويا أسماء المعارف المشتركة وذلك لاهتمامه بالسينما وحضوره عروض نادي السينما، وهو من كشف لي ان شقيقي أبو بكر معتقل هنا في ذات هذا المنزل من الناحية الأخري التي نقلوا لها بقية زملائي المعتقلين، إلي ان حانت لحظة انقطع فيها التيار الكهربائي من المنزل (الفيوز ضرب) فأحضروا أبو بكر لإصلاحه في جوار جراج اعتقالنا، ونوه لي المهندس بابكر لأري شقيقي، وقد رأيناه سويا من خلال فرجة الباب . وكان ذلك لأول مرة أراه من شهور عديدة وهو في الأسر، بعدها بأيام فتح الباب ونادوا علي ومقتادا طلبوا إلي ان أملأ الزير بإناء مثقوب، وفي رواحي ومجيئي لأداء المهمة المستحيلة، يضربوني بعنف بالأيادي علي ظهري، ثم وجهني أحدهم ان أتوقف، وقادني إلي غرفة أخرى عبر صالون كبير مليء بالمعتقلين رأيت في لمحة سرقت فيها النظر، بينهم بعض رفاقي في الغرفة الأولي، وآخرين للمرة الأولى، منهم بهاء الدين ومصطفي عبادة وعبد الله عبد المتعال وأدخلت لغرفة أخرى، وجدت في جواري شخص عرفت إسمه عبد الباقي من قادة جبال النوبة وشخص ملقب بالجابري من الخرطوم بحري . وآخرين والركن القصي من الغرفة شقيقي أبو بكر الأمين، وتبادلنا التحايا بالنظرات، وعندما ذهب المعذبون، للخارج أتيح لي الحديث معه في وقت تناول الطعام، وأصبح ذلك يحدث في كل وجبة نهمس سرا لأننا ممنوعين أن نتكلم إلي بعضنا، ومشيت علي ممر المؤدي لغرفة الحمام الذي شهد استبسال الشهيد د. علي فضل تحت التعذيب الوحشي، وحكي لي بعض شهود العيان حينها من المعتقلين قبلنا انه بقي مضروبا في حوض البانيو لعدة أيام، والآن وأنا أكتب أستنشق تلك الراحة الغريبة التي شممتها هناك، من وبسببها يفيض الدمع دون إرادتي، إنه الدم الذكي لعلي يعبق في كل أركان روحي .. وإن تغضيبة جبيني وحزني الذي لن ينفرج إلا بالقصاص والعدل، لروح د. علي ولكل الشهداء الشباب الشرفاء الأشاوس. لم استطع ان أكمل بقية أيامنا في بيت السوء والظلم والظلام ووحشية الإخوان المسلمين الكذبة الجبناء .
ركلونا بأحذية عسكرية غليظة، وقد شاهدت ذات فعلتهم الشنيعة، علي أجساد الثوار ووجوههم الثائرة الكريمة الأبية، في ساحة مجزرة الاعتصام، وزميلي صلاح يحتفظ بحذاء شركة باتا الذي اعتقل وهو يرتديه وأتخذه دليلا ان اقتصاد السوق وروشتات البنك الدولي والرأسمالية الطفيلية لن تسود إلا بإهدار دماء السودانيين الشرفاء .
سترسخ الحريات
سنبني السلام
ونحقق العدل
علي شرف ذكري الثورة المجيدة

علي الأمين
فنان تشكيلي
الثلاثاء ٢٠١٩/١٢/٢٤

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..